بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول أن الكذب مزاحا وهزلا هل هو حرام او لا ؟ أم ان هناك تفصيلا اخر في المقام؟.
ذكرنا أن الشيخ في آخر كلامه لم يستبعد حرمة الكذب المزاحي مطلقا، وفي قباله استظهر المحقق الايرواني الجواز مطلقا، وأما السيد الخوئي والسيد الوالد فقد ذهبا إلى التفصيل بنحوين مختلفين.
تفصيل السيد الخوئي: المدار على الإخبار والإنشاء
وإجمال ما ذكره السيد الخوئي هو انه ما كان من الكذب المزاحي إخبارا فهو محرم، وأما إذا كان إنشاء مع نصب قرينة عليه فليس بمحرم؛ لأنه ليس بكذب([1]), أي إن السيد الخوئي فصل مابين مقام الإنشاء والإخبار
وتوضيح كلامه: إن مقسم الصدق والكذب هو الخبر لا الإنشاء؛ فإن الخبر هو عبارة عن القول المطابق للواقع او الذي ليس بمطابق, فقد لوحظ فيه ان هناك واقعا مرئيا ولوحظ القول كاشفا ومرآة عنه، فان طابقه فصدق والا فكذب،
ثم ان الداعي لا يغير من واقع الكذب شيئا، فان ذكر ما لا يطابق الواقع وان كان مزاحا كذب, والداعي([2]) أجنبي عن حقيقة الصدق والكذب، هذا في الخبر و الإخبار,
وأما الإنشاء فهو إيجاد للاعتبار([3]) على المشهور، او الاعتبار المبرَز بحسب السيد الخوئي وعلى كلا التقديرين لا فرق؛ فان الإنشاء لم يلاحظ فيه أن هناك واقعا خارجيا حتى يطابقه القول الانشائي او لا، بل إن نفس الإنشاء هو الذي يوجد الواقع أو يبرزه كما في (زوجتك نفسي ... قبلت) فان هذا ليس بإخبار؛ بل أن العلقة بين الطرفين تنشَأ وتوجَد بنفس قولهما من الإيجاب والقبول.
وعليه: الإنشاء لا معنى فيه للصدق والكذب، هذا هو توضيح لما ذكره السيد الخوئي مع بعض الإضافات منا .
تفصيل السيد الوالد ( قدس سره ): المدار هو على ذكر القرينة وعدمه
وأما السيد الوالد فانه قد رفض هذا التفصيل وذهب إلى نحو آخر من التفصيل حيث يقول "ما مضمونه:
" لا فرق بين الإخبار والإنشاء فلو نصب المتكلم القرينة على المزاح فهو ليس بمحرم([4]), ولو لم ينصب القرينة فهو حرام وان كان إنشاءاً
وعليه: الكذب المزاحي سواء كان إخبارا او إنشاء إذا كان بدون قرينة فهو حرام.
توجيه التفصيل الأخير: وجهان في المقام
ويوجد وجهان([5]) يمكن أن يذكرا لتوجيه كلام السيد الوالد:
الوجه الأول: التدبر في تعريف الكذب
ان دعوى (إن الإخبار كالإنشاء عند قيام قرينة متصلة على انه مزاح ليس بحرام) تستفاد من تعريف الكذب وهو عدم مطابقة القول للواقع، والمراد من القول ليس القول بما هو هو، بل المراد هو مجموع ما قيل بما احتفت واكتنفت به من القرائن الموضحة والدالة على المراد الجدي،
فلو قال احدهم: زيد نائم الآن فان قيد ( الآن ) هو قرينة داخلة في القول، او قال آخر: ( زيد قائم بأمرك ) فالحال كذلك، ووجه المعنى متغير في العبارتين ببركة القرينة كما هو واضح,
اذن: حقيقة الخبر هي القول مع كل مكتنفاته من القرائن([6])
وحينئذٍ: لو أقام المتكلم قرينة على أن كلامه مزاح فلا يصدق عليه انه ليس بمطابق للواقع؛ فان الملاحظ ليس فقط لفظ المزاح وإنما المكتنفات أيضا وبلحاظها: لم يطلق اللفظ بما هو مرآة عاكسة للواقع ليقال انه صدق أو كذب بل أطلقه وأراد به المرآة زائداً المزاح لا المرئي والعاكسية، هذا هو الوجه في عدم صدق الكذب موضوعا على المزاح وإن كان خبراً فتدبر([7])
الوجه الثاني: الكذب في الانشاء لدلالته الالتزامية
واما الوجه الثاني في كلام السيد الوالد في رده ذلك التفصيل فهو:
إن الإنشاء لو لم تقم قرينة فيه على انه مزاحي لم تُرَد به المرآتية فسيكون كذبا؛ وذلك بلحاظ الدلالة الالتزامية منه، وهذه الأخيرة إخبار([8]).
اسثناءان من التعميم
ثم يذكر السيد الوالد تفصيلا آخر فانه وان كان يرى ان الكذب المزاحي مع القرينة جائز مطلقا، إلا انه يستثني من ذلك صورتين – إحداهما إيجابا والأخرى سلبا –:
الصورة الأولى: الهزل من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!
الهزل من مثل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) او الإمام (عليه السلام) ونضيف او مرجع التقليد او ما أشبه، فان الكذب من هؤلاء هزلا هو مما لا يتناسب ومقامهم، وعليه فان الوالد يستثني من عموم الجواز هذه الصورة وان أقام المتكلم القرينة في ذلك، لذا فهو محرم، وان ذيّله بـ(فتأمل).
الصورة الثانية: اللطيفة والنكتة
وأما الاستثناء الثاني فهو ما يعدّ في العرف لطيفة – او نكتة – فانه يعتبره جائزا، ويمثل لذلك بما صنعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحادثة المعروفة من أكله التمر مع علي (عليه السلام) ومزاحهما مع بعضهما البعض([9]), فما ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا ما ذكره النبي له ليس بكذب عرفا([10])
إذن: الكذب مزاحا ان كان من مصاديق اللطيفة او النكتة او ما أشبه فهو ليس بحرام كما ذكر السيد الوالد أمثلة أخرى([11]).
مقدمات تمهيدية مهمة:
ثم: انه بعد استعراض الأقوال الأربعة في مسألتنا، لا بد من تمهيد عدة مقدمات كي يتضح وجه النقاش فيها ثم نتبنى الرأي المنصور([12]):
النقطة الأولى: العناوين في المسالة ثلاثة: المزاح والهزل والاستهزاء
وهذه النقطة لم نجد من طرحها وهي: ان هناك خلطا قد حصل في كلام الأعلام – بحسب ما وجدت – بين المزاح والهزل، فان هذين عنوانان مختلفان كما يوجد الى جنبهما عنوان ثالث وهو الاستهزاء والسخرية، ولبيان موضوع المسألة بدقة لابد من التفكيك بين هذه العناوين الثلاث، فان ظاهر عبارة (مصباح الفقاهة) و(الفقه) هو الخلط بين عنوان المزاح والهزل في مساق حديثهم واستدلالهم.
توضيح ذلك: إن العناوين الموجودة في المقام ثلاثة وهي: المزاح، الهزل، الاستهزاء والسخرية
أما الاستهزاء فهو عنوان يتضمن التحقير وذلك واضح ففرق هذا العنوان عن الآخَرَين جلي.
الفرق بين المزاح والهزل:
وأما الفرق بين المزاح والهزل فهو:
إن الهزل إنما يطلق على ما يقال في مقام العبثية واللغوية
ومما يشهد على ما ذكرناه انه يصح أن نَصِفَ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه صدر منه المزاح أو قد مازح فلانا من أصحابه، ولكن لا يصح ان نصفه بانه صدر منه الهزل او هاَزلَ فلاناً.
والحاصل: ان الهزل يستبطن معنى العبثية واللاغرضية بقول مطلق، وأما المزاح فان له غرضاً عقلائياً كإدخال السرور على قلب المؤمن.
النقطة الثانية: مدار الصدق والكذب الواقع لا الاعتقاد
وهذه النقطة قد اشرنا إليها في ضمن كلامنا وهي إننا نرى أن مدار الصدق هو مطابقة القول لا الاعتقاد للواقع, ونضيف ان المطابقة لابد أن تكون بلحاظ ما قد احتف واقترن بالقول من قرائن
النقطة الثالثة: القسيم الثالث للصدق والكذب
وهذه النقطة هي نقطة مهمة وهي: هل ان هناك قسيماً ثالثا للصادق والكاذب او لا؟
وبعبارة أخرى: هل ان القضية منفصلة حقيقية، فإننا عندما نقول إن الخبر إما ان يكون كاذبا او صادق فهل يوجد قسم آخر؟ أي يوجد أخبار لا صادق ولا كاذب([13])؟
الظاهر: إن العلاقة بين الصدق والكذب ليست بمانعة خلو والقضية ليست بمنفصلة حقيقة، بل هناك شق ثالث وهو فيما لو انفكت الإرادة الجدية عن الاستعمالية، كما في المعلم في مقام التعليم فان خبره عند إعرابه لجملة ما أو عند تمثيله لا يصح أن نصفه بالصدق او الكذب, كما لو قال: زيد قائم كمثال على الجملة الأسمية، ولكن زيداً بالواقع لم يكن قائماً، والسر في ذلك: إن لحاظ المعلم عند الإعراب هو اللفظ بما هو هو، لا انه يلحظ مرآتيته وإخباره عنه للواقع، وللكلام تتمة.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) اي انه سالبة بانتفاء الموضوع
([2]) سواء كان جدا أو هزلا بلا فرق بينهما
([3]) فانه يوجد رأيان وقولان في الإنشاء ولكن النتيجة في المقام واحدة
([4]) إما موضوعا لأنه ليس بكذب او حكما وسيأتي تفصيل ذلك ان شاء الله
([5]) كما خطر ببالنا، وسيأتي ما ذكره من الوجه.
([6]) لفظية او غيرها
([7]) وسنناقش ذلك لاحقا
([8]) فان الإنشاء بلحاظ دلالته المطابقية لا يمكن وصفه بالصدق او الكذب انما ذلك بلحاظ الالتزامية منه
([9]) وذلك ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام)كانا يأكلان التمر وكان أمير المؤمنين يحاول ان يلاطف النبي ويداعبه فعندما يأكل التمر يأخذ النوى بيده وينتظر لحظة حتى يلتفت النبى ص الى جهة ما فيضع النواة أمامه حتى اجتمع الكثير من النوى إمام النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بينما في قبال الإمام لم يبق شيء أو إلا القليل منه, وهنا لاطف امير المؤمنين (عليه السلام) النبي بالكناية عن انه ربما أكل كثيراً! فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ان الجائع اكثر هو من أكل التمر بنواته!!
([10]) فان النبي قد ذكر كبرى كلية وهذه بلحاظ لطافتها تنطبق على المورد
([11]) لكن هل ما ذكره من مثال كدليل صحيح او لا؟ سيأتي
([12]) وكل مقدمة ونقطة تجيب عن دليل أو رأي من الآراء المتقدمة أو تؤكده أو تضيف أمراً جديداً.
([13]) ولعل العبارة الأدق هو انه يوجد قسيم ثالث للخبر والإنشاء؟ - المقرر. وسيأتي تحقيق ذلك |