بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تقليد الأعلم
(48)
تتمة الاستدلال للوجه الثاني: المراد بالحكم فصل الخصومة
فوارق الحكم عن الفتوى
سبق الاستدلال على ان الحكم غير الفتوى وانه مباين لها وليس أعم مطلقاً، بما مضى، واما سائر الأدلة:
الحكم إنشاء والفتوى إخبار
ج- ان الظاهر هو ان الحكم إنشاءُ اعتبارٍ أو طلبٍ – والإنشاء إيجاد - أو إعمال ولاية، فالأول كإنشاء الاحكام الوضعية والثاني كإنشاء الوجوب والحرمة والثالث كما في حكم القاضي بإجراء الحد أو حكم الوالي بعقد صلح أو إعلان حرب لكن الظاهر دَرْجه في أحد الأوّلين. فتأمل
اما الفتوى فهي إخبار عن حكم شرعي على ان يكون عن حدس، ولذا لا يقال لمن أخبر عن حس كما لو سمع أو رأى انه أفتى بل أخبر.
ويدل على ذلك ([1]) الارتكاز والتبادر، كما تشهد له كلمات اللغويين، ولنشر إلى بعضها الآن موكلين بقيتها للدرس القادم باذن الله تعالى.
قال في معجم مقاييس اللغة ([2]) (الفاء والتاء وحرف المعتل أصلان أحدهما يدل على طراوة وجِدّة ([3]) والآخر على تبيين حكم...
والأصل الآخر الفتيا يقال أفتى الفقيه في المسألة إذا بين حكمها واستفتيت إذا سألت عن الحكم قال الله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)) ([4])
أقول: تفسيره الفتوى بتبيين الحكم تفسير بالأعم إذ ليس مطلق تبيينه فتوى بل إذا كان عن حدس خاصة – كما سبق – ويدل عليه صحة سلب الفتوى عن العامي أو الوكيل الناقل لفتوى المرجع فانه مخبر عنها وليس مفتياً.
الفتوى خاصة بدائرة الأحكام الشرعية
والظاهر ان الفتوى خاصة بدائرة الأحكام الشرعية ولذا لا تطلق على إعمال المهندس أو الطبيب أو المحامي نظره فلا يقال عن المهندس انه أفتى وان فتواه كذا بل يقال ان رأيه كذا، ويؤكده قول إبن فارس (تبيين حكم) ولعله بأصل الوضع لا بالوضع التعيّني وإن كان ذلك بحاجة إلى تتبع وتأمل أكثر.
وقوله تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ) يعني يستخبرونك، قال في مجمع البيان (أي يسألونك الفتوى وهو تبيين المشكل من الأحكام)
واما إطلاق الفتوى عليه تعالى: (قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ) فللمشاكلة إذ ليس إخبار الله تعالى عن حدس أبداً كما هو واضح فهو كإطلاق الصفات أو الأفعال عليه مقام فانه جل اسمه عالم لكن علمه عين ذاته اما علم غيره فغير ذاته، وعلومنا كيفية نفسية أو إضافة أو انفعال أو غيرها على الأقوال اما علمه تعالى فليس بشيء منها إذ هو عين ذاته، وكذلك غضبه وانتقامه إذ يراد بها غاياتها.
والحاصل ان يفتيكم يراد بها (يبين لكم ما سألتم في شأنها) كما في مجمع البيان.
ثم انه ان أطلق الحكم على الفتوى فهو مجاز بلحاظ ما قد يستتبعها من الحكم على طبقها أو الإلزام بها. فتدبر
النسبة بين الفتوى والحكم هي من وجه
د- ان النسبة بين الفتوى والحكم هي العموم والخصوص من وجه مما يكشف بالبرهان الإني عن عدم ترادفهما، وبعلاقة التقابل بين النسب الأربعة عن عدم كون الحكم أعم مطلقاً من الفتوى.
اما مادة افتراق الحكم عن الفتوى: فكما لو حكم العامي بأمرٍ استناداً إلى فتوى مرجعه، فانه حاكم وليس بمفتي وذلك واضح بناءً على عدم اشتراط الاجتهاد في القاضي واما بناء على اشتراطه فيه فكذلك إذ الجواز شرعاً وعدمه لا مدخلية له في صدق عناوين الموضوعات إذ يقال حَكَم هذا القاضي الفاسق بكذا أو حكم ذاك العامي بكذا وقد فعل حراماً، وبعبارة أخرى لا مدخلية للحكم – وهو في رتبة المحمول – في صدق الموضوع أو المتعلق ([5]) – فانه أسبق رتبة.
واما مادة افتراق الفتوى عن الحكم فكما لو أخبر عن نظره صِرفاً ولم يحكم كما لو أخبر عن الهلال دون ان يحكم به، والفرق، من حيث الأثر، نفوذ حكمه على سائر المجتهدين دون فتواه ([6]).
وبعبارة أخرى: الانفكاك بين الحكم والفتوى دليل التغاير، والانفكاك من الطرفين دليل التباين.
و- كما يصح سلب الحكم عن الفتوى والفتوى عن الحكم، ويظهر ذلك مما سبق بل ان هذا عبارة أخرى عما سبق، والأدق ان ما سبق يصلح برهانا لهذا.
اختلاف معانيها لدى تصريفها
هـ- وقد يستفاد من التصريفات التغاير كما في قولك (إستفتى) فانه بمعنى استخبر وسأل عن الحكم الشرعي وليس بمعنى استقضى أو استحكم (اي طلب الحكومة أو الحكم) ([7])، وذلك يكشف بالبرهان الإني عرفاً عن تغاير الموضوع له لمصادرها المجردة.
التعاقب يفيد التغاير
و- كما يستفاد التغاير من الترتب والتعاقب إذ يقال (افتى فحكم) ولو كان عينها لما صح إذ لا يصح (افتى فافتى) كما لو كان الحكم أعم لما صح ذلك إذ بتحققه يتحقق فلا يعقل التعاقب والترتب، كما ان عكسه مما لا يصح فلا يقال (حكم فأفتى) فانه غير صحيح إذ الفتوى – منه أو من غيره – مقدمةٌ رتبةً على الحكم.
التقابل يفيد التباين
ز- كما يستفاد التباين من التقابل العرفي بين الفتوى والحكم؛ ألا ترى ان قوله ( عليه السلام ) مثلاً لابان بن تغلب ((اجْلِسْ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَ أَفْتِ النَّاسَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي شِيعَتِي مِثْلُكَ)) ([8]) يغاير قوله ((وَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق)) ([9]) أو (ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ)؟
ولا يخفى المناقشة في بعض ما سبق إلا ان بعضها تام وفي المجموع الكفاية. وللحديث صلة
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
================================
|