• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : دراسات وقراءات .
              • الموضوع : دراسة في كتاب "نسبية النصوص والمعرفة ... الممكن والممتنع" (2) .

دراسة في كتاب "نسبية النصوص والمعرفة ... الممكن والممتنع" (2)

 

مرقع الإمام الشيرازي

الإشكالية المنهجية الفكرية في الفهم الإسلامي التغريبي

إن تحقيق الفهم الإسلامي بأشكال تغريبية معاصرة، تتعكز على أدوات بحثية, غريبة عن المنهج الإسلامي, يرفضه سماحة السيد المؤلف, شكلاً وتفصيلاً, لجهة كونه مناقض لكل من المنهجين, النقلي أو الشرعي كما يصفه سماحته, فهو يقاطع الأحكام المستنبطة من النص المقدس في الكتاب والسنة, كما هو يناقض المنهج العقلي الذي لا يختص في البحث الإسلامي, وإنما هو متحرك في مساحات واسعة من الفكر الإنساني عموماً, فضلاً عن مقاطعته لمنهج دليل الإجماع الذي يشترط فيه الكثير من الفقهاء, أن يكون مرتبطاً في الكشف عن المعصوم, بمعنى أن يحتكم إليه كدليل شرعي, في حالة انسجامه مع السنة حصراً.

عليه فإن المؤلف في احتجاجاته, على هذا الشكل من الفهم الإسلامي, من خلال مخاطبته للرؤى الفلسفية فيه, يمسك بأدوات منهجية بحثية, هي غير مختصة بالفكر الإسلامي ومنهجياته حصراً, كونه امتداد للنتاج التاريخي, في الفكر والتراث الإنساني, وهو المنهج العقلي المنطقي والتحليلي الذي اعتمدته أيضاً, مدرسة آل البيت الفقهية, في غالبية اتجاهاتها, وكذا العديد من مدارس أهل السنة, في التحقيق الفقهي, ودليلاً شرعياً, في استنباط الأحكام.

 

المنهج العقلي المنطقي في مخاطبة الآخر

إن المنهج العقلي المنطقي, في رؤية المؤلف البحثية, يستدعي لمخاطبة الآخر غير المسلم, أو لمحاججته, فضلاً عن صلاحية هذا المنهج, لمخاطبة المسلم غير المتدين, أو الذي لا يتخذ الرأي الشرعي, إلزاماً في الجوانب الفكرية الثقافية أو السياسية, والتقنين العلمي "الإبستيمولوجي", فيمكن مخاطبته وفق المنهج العقلي, فضلاً عن النقلي, لجهة كونه مسلماً, على زعمه وإلزامه, وقد وصفهم المؤلف, بأنهم "مسلمون من أصحاب التوجّه الغربي", حيث يحتج عليهم بما هو ضروري من العقل.

وبذلك يكون المؤلف قد جمع كلا النمطين من الاستدلال, النقلي والعقلي, وأضاف لهما في مباحثه, احتجاجاً ثالثاً, وهو منهج الوجدان والفطرة, وهو مذهب قديم, قد استخدمه أوائل العلماء الفقهاء, لمخاطبة النفس والوجدان في الإنسان, أطلق عليه المنهج الوجداني, وبالتأكيد فإن الفطرة, كانت إحدى الاستدلالات المهمة, في اثبات الإيمان, والدعوة للإسلام, وقد تعامل المؤلف مع هذا المنهج, وفق ما جرت عليه مدرسة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله), وأهل بيته (سلام الله عليهم), إذ اعتمدوه منهجاً تكميلياً, وليس أساساً, في الحجة والاستدلال, كونهم قد خاطبوا الآخر, وفق الأدلة العقلية أصلاً, الى جانب دليل الفطرة تكميلاً.

وهكذا قد سلك المؤلف في مباحثه, فهو لم يترك منهج الوجدان والفطرة, لكنه لم يعتمد عليه, أو يستند إليه حصراً, كحجة في دعم رؤيته الفكرية, خاصة لجهة نقد "النسبية", ومخرجاتها ومدركاتها, من خلال دعوته الى "ضرورة الإيمان بالحق والحقيقة الواحدة المطلقة, الذي يعتبر الخطوة الأولى لتأسيس أي بناء معرفي, لبداهة القول, أن المعرفة تأتي تبعا لإمكانية المعرفة".

 

مقاربة لموقع المسألة في الكتاب ومبانيه الفكرية

يبين سماحة المؤلف في مقدماته, أن النسبية عموماً, متحركة في ثلاث مناطق فكرية, تتعلق أولاً بعالم العين, أو ما يعرف بالكون المادي, وهي النسبية في عالم الحقائق, ثم النسبية المتعلقة بعالم الذهن أو الكون الحسّي, وهي النسبية في منطقة العلم والمعرفة, ثم النسبية في العالم الرابط بين العالمين العيني والذهني, وهي التي أطلق عليها المؤلف, بالجسور والكواشف والدالّات والمفاهيم الذهنية, واللغة المعبرة عنها, ثم هنالك منطقة رابعة, وهي التي تجمع بين المفاهيم ببعض, في أركانها المختلفة, والتي يطلق عليها بالنسبية المطلقة.

وقد أفصح المبحث الافتتاحي في الكتاب, عن هذه المفاهيم في "النسبية" ومدلولاتها, وقد أجرى تصنيفاً لهذه المفاهيم, التي تشكّل الرؤى المختلفة للنسبية, والتي يمكن أن تعبّر عن هذه المقولة فرداً أو جمعاً, بمعنى أن المفهوم الفرد منها, يمكن أن يعبّر عن مقولة ومفردة "النسبية", كما أن المفاهيم المذكورة جميعها, يمكن أن تعبّر عن ذلك أيضاً, وعليه فإن نطاق الكتاب, متحرك في سائر مفاهيم النسبية ومدلولاتها, بما يتجاوز التحديد البائن في عنوانه. 

        

ولادة الكتاب ومرجعيته المعرفية

بينت المقدمة في متنها, كيفية ولادة الكتاب ومرجعيته, والبنية التي تأسّس عليها, حيث أن سماحة المؤلف, قد قدم مادته بشكل محاضرات بحثية, تمكنت من مخاطبة النخبة العلمية, من خلال ما يتبين من نصوصه ومبانيه, وحرفية اللغة والأدوات العلمية التي يسلكها المؤلف, في عرض الأفكار وبناء المقدمات, ثم المنهجية التحليلية في استنباط النتائج والإستنتاجات, فضلاً عن تضمينه خطاب ميسّر لغير المختص, أو غير المهتم وغير المطلّع, على الحقول العلمية التي اعتمدها المؤلف في الكتاب.

ثم عكف فريق المحررين, على تحرير المادة العلمية, في تلك المحاضرات, بشكل نصوص ومتون, ثم عرضت على السيد المؤلف ليكمل فيها, ما لم يسعفه الوقت بعرضه في المحاضرة, فضلاً عن إحكام النصوص فكرياً ولغوياً, وإرجاعات بعضها, في هوامش وتعليقات مكمّلة, أغنت النص الأصل ومتونه, وفق الصيغة التي رآها مناسبة لعرض الكتاب.

 

الاشتراطات المنهجية والشكلية بين الإلقاء والتحرير والتحقيق

إن تحرير النصوص, في متن الكتاب المصنف, بصفته شكل من النشاط العلمي في التأليف, يستلزم اشتراطات ذهنية, وثقافة موسوعية علمية, وتخصصية عالية, في مجال الحقل العلمي لموضوع البحث, كونه يتطلب من الكاتب المحرر, كما من محرر التقريرات, في البحث الخارج, القيام بالكثير من التصرف الشخصي, في كتابة النص, أو في إعادة ولادة النص, في الحذف أو الإضافة, أو إعادة الصياغة, أو ترتيب تسلسل الأفكار, أو وضع العناوين التي تستجيب لحاجات منهجية, في الجمع بين المتشابهات والمتناظرات, في المادة العلمية, فضلا عن كتابة الهوامش والتعليقات, والإرجاعات الى المصادر والمراجع, أو تنسيقها وترتيبها, ثم تحريرها لغة, بما ينسجم ونهج المؤلف, وغاياته الفكرية فيها.

وعليه فإن المنهجية الشكلية, ستكون من المهام التي يتولاها المحرر للنص, في التـأسيس على التوجهات العامة, التي أظهرها المؤلف في أصل النص شفاهة, فيجري ترتيب الهيكلية الشكلية, وتحرير العناوين الملائمة للفصول, ومن ثم المباحث والعناوين الفرعية, مع ترتيب التسلسل المنطقي, في عرض المادة العلمية, وتضمينها للعناوين ذات الصلة, ثم سيتطلب منه, فهماً عميقاً ودقيقاً, للفكرة التي يروم المؤلف طرحها, ليتمكن من صياغتها لغوياً, بما يتلاءم ومضامين الفكرة بدقة, بحيث تكون قابلة للاستيعاب من قبل المتلقي.

أما مناهج البحث, فلا دخلية لمحرر النص فيها, وهي من ضمن أصل النص, وتكون من مهمة التأليف وإنتاج الفكرة, والمادة العلمية, في عرض مقدماتها, واستخراج نتائجها, أو في تدوين الحقائق فيها, والخروج منها باستنتاجات بحثية, قصداً وتحديداً, لما تعرض له معضلة البحث, وفق المنهج البحثي, الذي اتبعه الباحث المؤلف, وصولا لعملية صنع المعرفة فيها, وفي الكتاب المؤلف عادة, لا يشترط الإلزام المطلق, بمتطلبات المناهج والمنهجية, كما في البحث العلمي القياسي.

 

مقاربة بين إشتراطات الإلقاء الشفاهي والنص المحرر

إن الفرق بين اشتراطات النص الخطابي أو الشفاهي, بشكل محاضرة أو إيجاز علمي, أو عرض لنتائج بحث, أو درس تخصصي, أو ندوة وحلقة نقاشية, أو ثقافية, وبين اشتراطات النص المكتوب والمحرر, هو في تلبية متطلبات المتلقي حصراً, فالنص الشفاهي, يستلزم الكثير من التكرار أو الإضافة والإستطراد, وهي ضرورة لجهة شدّ المتلقي المستمع, الى الشخص المحاضر أو الخطيب أو المتحدث, في محاولة إبقائه ذهنياً, في توقد وإتصال مستمر مع المحاضر, ضمن تتبعه لتسلسل عرض المادة.

تتأسس هذه الإشتراطات عادة, على قواعد وترتيبات مبادئ "علم الاتصال", التي تتضمن عناصرها الثلاثة, وهي المرسل والمتلقي ووسيلة الإتصال, فضلاً عن الرسالة, التي تتمثل في المادة العلمية للمحاضرة, أو الإيجاز العلمي البحثي, وكذلك فيما يعرف في علوم طرائق التدريس بعلم أو "فن الخطابة", الذي ينصرف الى وسائل إدامة الإتصال, بين المحاضر المتحدث, والمتلقي المستمع, فيما لا تكون هذه الإشتراطات نفسها, في النص المكتوب, حيث يكون المتلقي هو القارئ, وهي مهمة الكاتب المحرر, أو كاتب التقريرات.

 

مداخلة بين اشتراطات الكتابة في التحرير والتخقيق

إن هذا الشكل من تحرير النصوص, يختلف عن مقصد آخر من التأليف, وهو في تحقيق الكتب المخطوطة, أو في إعادة طبعها, ففي حين تتحدد الهوامش والإرجاعات في مقاصد التحرير, الى التعريف بالمصطلحات أو المفاهيم أو المدلولات, التي ترد في نص الكتاب, ثم التعريف بالأعلام, ومن غير المعتاد أن تنصرف هذه الهوامش, الى إستكمال الأفكار والرؤى والمداخلات النقدية, التي ترد في أصل النص, لأن هذه المكملات, يفترض حضورها في ذهن المؤلف, مما يستوجب إضافتها الى اصل النص, وبالتنسيق مع المؤلف, بعد عرض النسخة المحررة عليه, وهوما يجري أيضا, في في كتابة التقريرات, عن دروس بحث الخارج, التي تلقى على طلبتها.

أما في مقصد التحقيق, فإن هذه الهوامش يمكن أن تتحرك على مساحة واسعة, لتنصرف الى التوسع والتفصيل في عرض الأفكار والرؤى, والى استكمال ما يعتقد المحقق, ضرورتها لأشباع الحاجة الإستيعابية للقارئ المتلقي, ومتطلباته الثقافية في التوسع في المعلومة, وتكون بقلم المحقق. ومن ضمن مهمته, في الوقت الذي لا يقبل في مقاصد التحرير, أن يكون الهامش بصوت المحرر, وفي حالات محدودة, قد يمكن ذلك, على أن يشفع الهامش, ببيان نسبة الهامش الى المحرر, لأن سائر الهوامش في التحرير, هي بلسان وصوت المؤلف, وإن حررها وكتبها, محرر النص نفسه.

 

مقصد الدراسة ونموذج التأليف في الكتاب

عليه يعتبر الكتاب موضوع الدراسة, محاولة لعرض هذا النموذج من التأليف, مما يعرض على القارئ المتلقي, أن يتفهم المعوقات والصعوبات, في هذا الشكل من الكتابة, وبالتالي فإن النتيجة من هذه المداخلة في الدراسة, هي إن التأليف بهذا الشكل والمقصد, لا يمكن أن يصل الى النموذجية في تحرير النص, المعبر عن أصل الفكرة ومضمونها, مما سيتوجب على المتلقي القارئ, أن يكون طرفاً حيوياً, في إدامة الإتصال, مع أصل النص.

وهو أيضاً قد يكون من المقاصد الرئيسة, لهذه الدراسة, في عرض وتحليل الكتاب, ولتكون عاملاً مساعداً في قراءته, أو ما يعبر عنه, بالأداة المنهجية الحفرية "الأركيولوجية", في محاولة لكشف طبقاته الفكرية الجيولوجية, وقد يكون داعما, لعملية قراءة الكتاب, واستيعاب مناطق رؤياه, الفكرية والنقدية. 

                 

قراءة في مفهوم "النسبية" في ضوء مباحث الكتاب

لقد أوجز الصدر الأول من الكتاب, مفاهيم النسبية بشكل موجز وتفصيلي, تضع القارئ بوقت مبكر, في دائرة الفهم النفصيلي, للإطار العام لمفاهيم النسبية في الجزئي منها والكلي, وقد بين المؤلف, أن النسبية تتحرك في العوالم الكونية الرئيسة الثلاثة, مع إمكان وجود غيرها, أقل أهمية وانتشاراً منها, ولكل عالم كوني منها, تستجيب النسبية في مخرجاته ومبانيه, الأول هو العالم العيني, وهو الكون الخارجي, أو المادي أو الملموس, وفيه تتحرك نسبية الحقيقة, ونسبية المعلوم, وهي نسبية الحقائق الخارجية, التي يعبر عنها المؤلف, بالحقائق النفس أمرية, في عالم الثبوت.

ومن ثم عالم الوجود الذهني "في قبالة عالم الوجود العيني", وفيه تتحرك نسبية المعرفة ونسبية العلم "قبالة نسبية المعلوم في عالم العين", وهي عموماً تشكّل المفاهيم الذهنية, التي يعبر عنها بالعلم أو المعرفة, في عالم الإثبات, والتي قد تكون النسبة بينهما, على إختلاف أدبيات الإبستيمولوجيا, أو نظرية المعرفة العلمية, هي إما التساوي أو العموم والخصوص من جهة, أو العموم والخصوص المطلق, أو التباين, وفيها تفاصيل بحثية لسماحة المؤلف, يتركها لمضانها, لنه أشار الى ان الاختلاف فيها, لا يؤثر في سير البحث واستدلالاته, لجهة نقد وتحليل الفكر النسبي.

والعالم الثالث, هو الكون الرابط بين العالمين الأولين, عالمي العين والذهن, ويعبر عنه الكتاب, بعالم الوجود اللغوي واللفظي والكتبي, أو هو عالم الدوال والكواشف, وفيه تتحرك النسبية في الروابط والكواشف والجسور والنواقل, بين العالمين, وهي الأدوات في التعبير عن المفاهيم فيهما, في اللغة والعبارات والإشارات, والرموز والعلامات والنصب.

ومن ثم فإن النسبية تتنكر للحقائق الموضوعية في جميع المفاهيم المذكورة, وقد تكون هذه المقولة, هي الجامع المشترك, بين المفاهيم المختلفة للنسبية, فهي تقول بانعدام المطلق, سواء في الحقائق أو المعارف, أو في الدوال والكواشف غليها, وبشكل واضح, يشير الكتاب في ذلك, الى أن المبنى الفلسفي القائل, بأن الوجود هو حقيقة واحدة, هي مقولة مشككة, سواء وجود الخالق أو المخلوق, وان إنكار الحقائق الواضحة للوجدان, هي نوع من التطرف الفكري, لأن الحقائق غير خاضعة للإنكار, إلا نتيجة للجهل أو التطرف.

وعليه فإن هذه الرؤى والمتبنيات الفكرية, تدخل في منطقة الممتنع من النسبية, في ضوء رؤية وفكر المؤلف, غير أن مساحات واسعة أخرى, تتمثل في فسحة الاختلاف في الرأي, وفي الاجتهاد عموماً, سواء الفقهي أو الفكري أو العلمي, وفي اختلاف النظر للأشياء, باختلاف مصادر الرؤية وأدوات تفسيرها, وزوايا السقوط فيها, وباختلاف مناهج البحث فيها, وفي تباين أشكال إستيعابها, هي بالتأكيد مناطق واسعة, للممكن من النسبية, قد عرض لها الكتاب في مفاصله, دون أن يخصص لها عنوانا مستقلا, كونها تتحرك في مجمل مساحات "الممتنع" من النسبية.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=1561
  • تاريخ إضافة الموضوع : 7 رجب 1433هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28