بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
النميمة
(14)
الإشكال بعدم دلالة (ويفسدون) حتى على حرمة النميمة المفسدة
وقد يستشكل على صحة الاستدلال بقوله تعالى: (وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) حتى على حرمة النميمة التي توجب الإفساد في الأرض، في صورة الشك في ان (يفسدون) عنوان آلي أم استقلالي وعلى تقدير كونه استقلالياً هل المراد به الجامع أم خصوص قطع السبيل أو الدعوة إلى الكفر، بان الآية على هذا تكون من صغريات عدم منجزية العلم الإجمالي إذا تعلق بأطراف وكان بعضها منجَّزاً من قبل أو كان خارجاً عن محل الابتلاء؛ وذلك لأن الكثير من القبائح الضارة بالغير كانت محرمة من قبل – أي قبل نزول هذه الآية – فعندما نزلت الآية وترددنا – حسب مفروض البحث انه في صورة الشك بين كون الآية تفيد حرمةً استقلاليةً للجامع (فيشمل النميمة الإفسادية) أو انها لا تفيد إلا حرمة قطع السبيل والدعوة للكفر (فلا تشمل) أو هي مرآة للمحرمات الأخرى (فلا تشمل النميمةَ الإفسادية لو لم يكن من المحرمات الأخرى عنوان الإفساد في الأرض، وتشملها ان كان فرضاً) فقد شك بين الأقل والأكثر فلا تنجيز، وهذا هو الإشكال السابق – ثم ان هنا إشكالاً آخر – وهو المقصود ههنا - وهو انه حتى مع قطع النظر عن كونه أقل وأكثر بل حتى لو كان التردد بين المتباينين فانه حيث كانت جملة من المعاصي محرمة من قبل وحيث ورد عنوان جديد (الإفساد في الأرض) فلو فرض كونه شاملاً للنميمة الإفسادية فانه لا يوجب تنجز الحرمة نظراً لأن بعض مصاديق هذا العنوان – كقطع السبيل – كانت محرمة من قبل فعند ورود هذا الدليل لا يحدث علم إجمالي بحرمةٍ جديدة بل الحادث هو احتمال حرمة جديدة نظراً لأن أحد المتعلَّقين منجز من قبل فلو كان الوارد متعلقاً به([1]) لما أفاد حرمة جديدة ولو كان الوارد متعلقاً بمثل النميمة الإفسادية لأفاد، فلم يحدث علم جديد بالتكليف فلا تنجيز.
الجواب: 1- لا شك في حرمة الإفساد في الأرض
والجواب من وجوه: أولاً: ان يقال انه لا شك في حرمة الإفساد في الأرض لكونه من المستقلات العقلية ومنه النميمة الإفسادية ولدلالة الآية عليه فانه المتيقن منها وقطع السبيل تفسير بالمصداق إنما الكلام في حدوده وانه الإفساد المنتشر أو مطلق الإفساد، لكن هذا الجواب مبنائي وخروج عن مفروض الكلام من الشك ومن اننا لو كنا والاستدلال بهذه الآية وحدها([2]) فهل يصح أم لا؟
2- مبنىً بمنجزية العلم الإجمالي حتى لو تعلق بأطراف كان بعضها منجزاً من قبل
ثانياً: الإشكال مبنىً بان العلم الإجمالي منجز حتى وإن تعلق بأطراف بعضها منجز من قبل أو كان خارجاً عن محل الابتلاء أو مضطراً إليه، فكيف بما لو خرج لاحقاً، وذلك لأن العقلاء لا يرون فرقاً في منجزية العلم الإجمالي إذا تعلق بطرفين بين كون أحدهما كان منجزاً من قبل أولا، والأدق ان يقال انهم لا يرون فرقاً بين العلم الإجمالي وبين الاحتمال الإجمالي وهو أمر بين الاحتمال البدوي والعلم الإجمالي، وسيأتي مزيد توضيح لهذا المصطلح الذي خطر بالبال القاصر، فلنبدأ لتقريب المطلب ببعض الشواهد: وهي من وديان مختلفة فلاحظ -:
شواهد وصور
الأول: ما لو علم انه لو زار أحد صديقيه لَوَهَبَهُ داراً أو أعطاه من الأموال ما يغنيه لسنين فإنه لا فرق في حكم العقل ولدى العقلاء في حسن([3]) زيارتهما واستحقاق اللوم([4]) بالترك بين أن يكون كلاهما مقدورةً زيارتُه أو متيسرة أو احدهما فلا فرق بين ما إذا أمكنه ان يزور كليهما فانه يحسن زيارة كل منهما عندئذٍ وبين ما إذا تعذرت زيارة أحدهما فانه بحسن – بنفس الدرجة والوِزان - زيارة الآخر وذلك لأن احتمال الربح في زيارته مع العجز عن زيارة الآخر – مساوٍ لاحتمال الربح في زيارته مع القدرة على زيارة الآخر إذ كلاهما خمسين بالمائة مثلاً.
ولا يلتفت العقلاء إلى ما يقال من ان العلم الإجمالي لم يحدث علماً بالحسن لو كان أحدهما منجزاً من قبل وقد أحدث لو لم يكن؛ إذ ان هذا الفرق الثبوتي غير فارق في حكمهم بالحسن في الصورتين وذلك لمساواة الاحتمالين، والأدق ان يقال، كما سبق، انه وإن لم يحدث علماً إجمالياً جديداً بالحسن إلا انه أحدث احتمالاً إجمالياً جديداً به.
الثاني: ما لو طلق إحدى زوجتيه ونسي أيتهما المطلقة فان عليه الاجتناب عن كليهما، لمنجزية العلم الإجمالي وتساقط الأصول في الأطراف
لكن قد يقال ان العقلاء لا يرون فارقاً بينه وبين ما لو طلق أحداهما ونسي من هي وكان قد طلق أحداهما من قبل فربما يكون قد أعاد طلاقها بتوهم وقوعه من جديد، فدار بين انه طلق الثانية أو أعاد طلاق الأولى فما فرق هذا في المآل عن الصورة الأولى؟ والتفريق بالعلم بحدوث أمرٍ جديد في الصورة الأولى دون الثانية وإن صح إلا انه غير فارق كما سبق.
ولكن يرد عليه: ان الطلاق في الصورة الثانية على فرض تعلقه بمن طلقها من قبل، لم يقع فلا علم بأصل تحقق الطلاق فلا علم إجمالي ولا احتمال إجمالي، عكس الشاهد السابق واللاحق حيث يعلم بحدوث الشيء لكن الشك في تأثيره نظراً لخروج القابل عن محل الابتلاء أو كونه منجزاً من قبل. فتأمل
الثالث: ما لو سقطت قطرة دم أو قطرة سم في احد الانائين فانه لا يرى العقلاء فرقاً في لزوم اجتنابهما بين ان يكون كلا الإنائين نقياً طاهراً من قبل وبين كون احدهما مما كان فيه الدم أو السم من قبل، فإن العقلاء والعقل يلزمون بتجنب كلا الإنائين في كلتا الصورتين ولا يجدون في الفرق المدعى من وجود العلم الإجمالي في الحالة الأولى وعدمه في الحالة الثانية([5]) فارقاً إذ يرون الاحتمال الإجمالي بمنزلة العلم الإجمالي منجزاً وسيأتي توضيح ذلك غداً بإذن الله تعالى.
لا يقال: يجب الاجتناب عن الإناء الثاني في الحالة الثانية أيضاً لأن المحتمل خطير فالتنجز لأجل الاحتمال لا لأجل العلم الإجمالي.
إذ يقال: ان ذلك وإن صح إلا انه لوجود عنوان جديد هو (الاحتمال الإجمالي) وهو أمر فوق الاحتمال البدوي وإن كان منجزاً نظراً لأهمية المحتمل وليس لأجل أهمية المحتمل بحيث يدور مداره([6])، وذلك لوضوح ان الحالات النفسية ومن ثم الاعتبارات العقلائية ثلاثة:
أ- الاحتمال البدوي ب- الاحتمال الإجمالي كما في المقام حيث لم يحدث علم إجمالي جديد بالتكليف لكنه حيث علم بسقوط قطرة في احدهما حدث له أكثر من الاحتمال البدوي وأقل من العلم الإجمالي وهو الاحتمال الإجمالي أي الاحتمال الناشئ عن العلم إجمالاً بسقوط قطرة دم تكويناً وإن لم يحدث علم إجمالي بتكليف جديد. ج- العلم الإجمالي.
فقد يقال: ان العقلاء لا يفرقون من حيث الحكم بين الثاني والثالث.
وتفصيل الكلام في ذلك ووجوه التأمل والمناقشة توكل لمظانه هنالك.
3- بناءً: العلم الإجمالي منجز في تلك الصورة لو كان له أثر جديد
ثالثاً: الجواب بناءً بانه وإن سلمنا ان العلم الإجمالي غير منجز إذا تعلق بأطرافٍ كان بعضها منجَّزاً من قبل أو خارج دائرة الابتلاء، لكنه يستثنى منه – كما صرح به جمع من الأصوليين وكما هو مقتضَى القاعدة على هذا المبنى أيضاً – ما لو كان للعلم الإجمالي أثر جديد فان يتنجز بلحاظه لفرض حصول العلم الإجمالي بالتكليف أو الأثر الجديد على كل تقدير، وذلك كما إذا علم بسقوط قطرة بول على إحدى قطعتي قماش كانت احداهما متنجسة بالدم من قبل فان للعلم الإجمالي الجديد أثراً جديداً وهو لزوم الغسلة الثانية في التطهير بالماء القليل (إذ يكفي في التطهير من الدم بعد إزالة عين النجاسة صبّ الماء القليل مرة واحدة ولا يكفي في البول إلا الغسلتان).
والمقام من هذا القبيل؛ لأن حكم الإفساد في الأرض هو حكمٌ آخر إضافي لم يُرتَّب على سائر المعاصي قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ)([7]) وللحديث صلة.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) قطع السبيل.
([2]) دون الاستناد إلى كونه من المستقلات العقلية وشبه ذلك.
([3]) يلاحظ التعبير بـ(حسن) إذ لا استحقاق للعقوبة ههنا على المخالفة كي نعبر بـ(تنجيز) فان تحصيل المغانم حسن وليس تفويتها بعنوانها حراماً.
([4]) لا العقاب، للوجه السابق.
([5]) بدعوى انه لو سقطت القطرة الجديدة فيما كان فيه الدم من قبل فانه لا يحدث علم جديد بتكليف جديد إذ لا تكليف جديد عندئذ بالاجتناب للزوم تحصيل الحاصل ان جعلت النجاسة بنفسها مرة أخرى أو جعل وجوب الاجتناب السابق، ولزوم اللغوية لو جعل مثلهما. وهذا هو الدليل الذي استدلوا به على عدم التنجز لعدم حدوث علم ولو إجمالي لو تردد المتعلَّق بين منجز من قبل وغيره.
([6]) ويدل عليه انه وإن لم يكن المحتمل خطيراً كسقوط قطرة دم ولا خطورة في شرب الماء هذا مثلاً مع اضمحلالها فيه.
([7]) المائدة: 33.
|