بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
النَجش
(مدح السلعة أو الزيادة في ثمنها ليزيد غيره)
(20)
سبق اختلاف اللغويين في تفسير (النجش) وتعريفه، وقد نقل لسان العرب العديد من التعريفات ومنها: (والنَّجْشُ والتَّناجُشُ: الزيادةُ فِي السِّلْعة أَو المَهْرِ لِيُسْمَع بِذَلِكَ فيُزاد فِيهِ، وَقَدْ كُرِه، نَجَشَ يَنْجُشُ نَجْشاً. وَفِي الْحَدِيثِ: نَهى رسولُ اللَّه، ( صلى الله عليه وآله )، عَنِ النَّجْش فِي الْبَيْعِ وَقَالَ: لَا تَناجَشُوا، هُوَ تَفاعُل مِنَ النَّجْش؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: هُوَ أَن يَزيدَ الرجلُ ثمنَ السِّلعة وَهُوَ لَا يُرِيدُ شَرَاءَهَا، وَلَكِنْ لِيَسْمَعَهُ غيرُه فيَزيد بِزِيَادَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُرْوَى فِيهِ عَنْ أَبي الأَوفى: الناجِشُ آكلُ رِباً خائنٌ...)
(ابْنُ شُمَيْلٍ: النَجْشُ أَن تَمْدَحَ سِلعةَ غيرِك لِيَبِيعَهَا أَو تَذُمَّها لِئَلَّا تَنْفُق عَنْهُ؛ رَوَاهُ ابْنُ أَبي الْخَطَّابِ. الْجَوْهَرِيُّ: النَّجْشُ أَن تُزايدَ فِي الْبَيْعِ لِيَقَعَ غيرُك وَلَيْسَ مِنْ حَاجَتِكِ، والأَصل فِيهِ تَنْفيرُ الْوَحْشِ مِنْ مَكَانٍ إِلى مَكَانٍ. والنَّجْشُ: السَّوق الشَّدِيدُ. وَرَجُلٌ نَجَّاشٌ: سَوَّاقٌ)
كما سبق في الدرس الأول ما نقله الشيخ: (وهو كما عن جماعة: أن يزيد الرجل في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، ليسمعه غيره فيزيد لزيادته، بشرط المواطاة مع البائع أو لا بشرطها، كما حكي عن بعض. وحكي تفسيره – أيضاً – بأن يمدح السلعة في البيع لينفقها ويروجها، لمواطاة بينه وبين البائع أو لا معها)([1]).
مواطن اختلاف اللغويين في تفسير النجش
ومواطن الاضطراب أو الخلاف عديدة:
- فان البعض ذكر المهر والبعض لم يذكره. - بعضهم عرّفه بمدح السلعة وبعضهم بالزيادة في السلعة.
- بعضهم زاد الذم أيضاً، أي لينقص من الثمن. - بعضهم صرح بـ(البيع) وبعضهم أطلق بما يصلح للأعم منه.
- بعضهم قيّد بـ(وهو لا يريد شراءها) أو (وليس من حاجتك) وبعضهم أطلق.
- بعضهم قيد بالمواطاة وبعضهم أطلق.
المرجع لدى الاختلاف
وحينئذٍ فاللازم الرجوع إلى الأصول اللفظية إن كانت وإلا فالعملية.
الأصل اللفظي:
والمراد بالأصل اللفظي: ما يستظهر منه حال الموضوع له فالمراد به الدليل أو الامارة ومنها: قول اللغوي والصرفي والبلاغي، كل في حقله، على المنصور كما سبق، لكن الإشكال هو فيما لو تخالفت أقوال اللغويين أو اختلفت فهل هناك أصل([2]) لفظي هنا؟
وحينئذٍ فنقول: ان تعاريف اللغويين السابقة تدور بين أمرين لا ثالث لهما: التباين والإطلاق والتقييد.
1- الاختلاف في التعريف بدورانه بين المتباينين
اما التباين: ففي تعريف النجش بـ(الزيادة ليزيد غيره...) و(مدح السلعة ليزيد...)، وفي تعريفه بالزيادة في البيع خاصة أو المهر أيضاً فانهما متباينان وفي تعريفه بالزيادة وبالنقيصة ايضاً – والمراد كون المتعلقين متباينين لا الدالّ([3]) وعدم كون احدهما مطلقاً والآخر قيداً له إذ المهر مثلاً مباين للبيع -.
والظاهر في هذه الصورة الأخذ بكلا التفسيرين أو كل التفاسير إذ لا مانعة جمع بينها وإثبات الشيء لا ينفي ما عداه إذ تفسيره بأمر لا يستلزم عدم صحة تفسيره بأمر آخر أيضاً بل يكون الظاهر انه تفسير بالمصداق.
والحاصل: ان ظاهر التفسير بالمتباينين هو أحد أمرين: اما انه مشترك لفظي بينهما أو انه وضع للجامع بينهما، اما احتمال انه حقيقة في احدهما مجاز في الآخر فقد مضى ردّه بان اللغوي ليس من شأنه بيان المجازات بل ان هذا شأن الأديب والبلاغي ولذا لا نجد لغويا يذكر من معاني القمر الوجه الحسن أو من معاني الأسد الرجل الشجاع.
ألا ترى انه لو قال أحدهم (العين: الجارية) وقال الآخر (العين: الباصرة) وقال الثالث (العين: الذهب) دل على انه موضوع لكل على حده أو للجامع، وكذا لو ذكر احدهم كل تلك المعاني.
ويؤكده ويؤيده الجذر اللغوي للنجش وهو الاثارة والاستثارة فانه يناسب ان يوضع النجش في المعاملات بوضع تعييني أو تعيّني أو ان يراد به إثارة الطرف الآخر ليزيد قيمة السلعة أو المهر، أو لينقصها سواءً أكانت الإثارة بالمدح ليزيد أم بالزيادة ليزيد أم بالذم لينقص.
وبعبارة أخرى: التفسير الآخر للنجش أو لأي لفظ آخر يدور أمره بين كونه غلطاً أو مجازاً أو كونه من باب المصداق أو الموضوع له على حدة.
والأول مدفوع بالأصل العقلائي في أهل الخبرة في الحدسيات كما في أخبار الثقة في الحسيات.
والثاني مدفوع بإحراز بناء اللغويين على ذكر الموضوع له الحقيقي عادة. فبقي الأخيران وبكل منهما يتم المقصود فلا ضرورة هنا تدعو لتحقيق الحال فيهما. فتدبر
2- الاختلاف في التعريف بالاطلاق والتقييد
اما الاطلاق والتقييد: فكتقييد بعضهم بالمواطاة وإطلاق البعض، وتقييد بعضهم بكونه غير قاصد للشراء وإطلاق البعض، وتقييد بعضهم بالبيع وإطلاق بعض.
فلو اختلفت أقوال اللغويين في الإطلاق والتقييد فههنا صور ثلاث:
الأولى: ان نحرز إرادة المطلِق الإطلاق، وهنا يقع التعارض بينهما (المطلِق والمقيِّد)
الثانية: ان نحرز غفلته، وهنا فان المقيّد مقدَّم.
الثالثة: ان لا نعلم حاله، وهنا نقول: ان الظاهر ان ذا القيد هو المقدم لأنه حجة والآخر مجهول الحال ولا يعارض مجهولُ الحال الحجةَ
ويوضحه ما يقال من ان اللغوي في مقام التعاريف لا يرى مهمته بيان الحد التام ولا الرسم التام بل ولا الناقص بل مجرد شرح الاسم والمقرِّب للمعنى فليس شأنه شأن المنطقي ولا انه وضع نفسه هذا الموضع، وعليه فكثيراً ما يعرف اللغوي اللفظ بالأعم منه لا لأنه الموضوع له بل مع علمه بان الموضوع له هو الأخص منه بل لأن مهمته تقريب المعاني إلى الأذهان بأقرب أو أبسط أو أوضح العبارات أو أكثرها تداولاً([4])، وحينئذٍ يكون المقيِّد حجة على ان التفسير الآخر تفسير بالأعم بل حتى لو لم يكن حجة على تفسير مراد الآخر فانه يكفي كونه حجة واصلة وعدم قيام حجة أخرى من الآخر على الخلاف([5]).
والحاصل: التفريق بين مقام التعريف بذكر القيود وعدمها ومقام ذكر الموضوع له وكونه مبايناً لما ذكره الآخر فتدبر جيداً.
وفي المقام فان (المواطاة) و(قصد الشراء) قيود وقد صرح بها البعض ولا يعلم حال من لم يذكرها فهل هو لبنائه على عدم اعتبارها أم لأنه ليس – كشأنه عادةً – في مقام الحد ولا الرسم بل في مقام ذكر المعرف الأجلى وإن كان أعم فلا حجة إذاً على خلاف المقيِّد.
واما التقييد بـ(البيع) فالظاهر انه مورد فهو كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)([6]) بل حيث صرح بعض اللغويين بـ(المهر) و(الأشياء)([7]) كان الأعم هو مما قامت عليه الحجة، واما الذاكر البيع فهو ساكت عن غيره. فتمت الحجة على الأعم. وللحديث صلة وصلى الله على محمد واله الطاهرين
عَنِ الْأَرْقَطِ قَالَ Sقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) لَا تَكُونَنَّ دَوَّاراً فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا تَلِي دَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ بِنَفْسِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ ذِي الْحَسَبِ وَالدِّينِ أَنْ يَلِيَ شِرَاءَ دَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ بِنَفْسِهِ مَا خَلَا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِذِي الدِّينِ وَالْحَسَبِ أَنْ يَلِيَهَا بِنَفْسِهِ الْعَقَارَ وَالرَّقِيقَ وَالْإِبِلَR الكافي (ط – الإسلامية) ج5 ص91.
([1]) المكاسب المحرمة ج2 ص61-62.
([2]) أي قاعدة.
([3]) إذ الدالّ في الأخيرين يدور أمره بين الإطلاق والتقييد.
([4]) فتأمل، إذ الأصل المساواة وغيره استثناء. وقد سبق في أبحاث العام الماضي ما ينفع المقام وتحقيقه فراجع.
([5]) بل حتى لو قلنا بان الأصل التفسير بالمساواة أو بالخاصة كما هو المستظهر، فان قول المقيد نصُّ والآخر قوله ظاهر في المساواة وعدم القيد فيقدم النص على الظاهر. فتأمل
([6]) الجمعة: 9.
([7]) قال الخليل الفراهيدي في كتاب العين ج6 ص28 (نجش: النجش: أن يريد الانسان أن يبيع بياعة فيساومه بثمن كثير ينظر إليه ناظر فيقع فيها. وفي التزويج أيضا والاشياء) |