بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
النَجش
(مدح السلعة أو الزيادة في ثمنها ليزيد غيره)
(19)
رواية (نهى ( صلى الله عليه وآله ) عن النجش)
وقد استدل بهذه الرواية أيضاً على حرمة النجش.
وقد أشكل عليه في فقه الصادق([1]) بـ(وفيه: انه مرسل، ودعوى انجبار ضعف السند بعمل الاصحاب تقدم ما فيها).
وقد مضى ان الظاهر اعتماد المشهور على روايات النجش وعملهم بها فضعف الخبر منجبر بالعمل، والوثوق النوعي الحاصل من خبرٍ مرسل اعتمد عليه أعاظم الفقهاء على اختلاف مبانيهم وأذواقهم ومناهجهم الاجتهادية على امتداد الأزمان أقوى من الوثوق النوعي الحاصل من خبر الثقة الواحد، ودونك العقلاء طراً فانهم في كل فن وعلم وصنعة ومجال لو اخبرهم ثقة مرسِلاً خبراً ثم رأوا اعلام القوم اعتمدوا على نفس هذا الخبر وثقوا به واعتمدوا عليه([2]) حتى يعد المشكك وسواساً خارجاً عن المألوف.
الخلاصة:
فتحصل: ان الروايات هي الحجة على حرمة النجش وان الرواية الأولى ((الْوَاشِمَةُ وَالْمُوتَشِمَةُ وَالنَّاجِشُ وَالْمَنْجُوشُ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ))([3])، تامة السند والدلالة لما مضى من ان اللعن صريح وإلا فظاهر في الحرمة وان الرواية الثانية تامة السند أيضاً والدلالة لأن التناجش ليس أخص من النجش كما مضى بيانه بوجوه وان الرواية الثالثة معتبرة ببركة عمل الأصحاب.
حدود النجش
ثم انه حيث صح لدينا الاعتماد على الروايات في حرمة النجش فلا بد من بحث حدود الموضوع وتحقيق حال النجش والمراد به ومدى شموله للمسائل التسعة السابقة في الدرس الأول: فهل هو خاص بالزيادة ليزيد غيره أم يشمل أيضاً المدح للبضاعة؟ وهل يشمل الزيادة في غير البيع كالصلح والإجارة أو حتى المهر أم لا؟ وهل يختص باللفظ أم يشمل الإشارة أيضاً؟ وهل يختص بصورة المواطاة أم يعم غيرها أيضاً؟ وهل يشمل المناقصة أيضاً أم يختص بالمزايدة؟ ... الخ
الأدلة على تعميم النجش
أقول: استدل السيد الوالد ( قدس سره ) على التعميم للنكاح بأدلة ثلاثة تصلح للاستدلال بها على التعميم لمعظم أو لكل الفروع التسعة الأخرى، قال (ويؤيد هذه الاطلاقات بالإضافة إلى فهم العرف الملاكَ، كونُ الأصل في النجش إثارة الصيد من مكان إلى مكان أو البحث عن الشيء كما قاله الحربي وغيره).
أقول: فالأدلة ثلاثة: الجذر اللغوي والملاك والاطلاقات، فلا بد من بحثها جميعاً:
أ- الجذر اللغوي للنجش
اما الجذر اللغوي فقد ذكره اللغويون ومنهم لسان العرب([4])، قال:
(نجش: نَجَشَ الحديثَ يَنْجُشُه نَجْشاً: أَذاعَه. ونَجَشَ الصيدَ وكلَّ شَيْءٍ مَسْتُورٍ يَنْجُشُه نَجْشاً: اسْتَثَارَهُ وَاسْتَخْرَجَهُ. والنَّجاشِيّ: المستخرجُ لِلشَّيْءِ؛ عَنْ أَبي عُبَيْدٍ، وَقَالَ الأَخفش: النَّجاشِيُّ والناجِشُ الَّذِي يُثِير الصيدَ ليمُرّ عَلَى الصَّيَّادِ...)
(النَّجاشِيُّ هُوَ الناجِشُ الَّذِي يَنْجُش نَجْشاً فَيَسْتَخْرِجُهُ. أَصلُ النَّجْشِ البحثُ وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الشَّيْءِ. والنَّجْشُ: اسْتِثارةُ الشَّيْءِ...)
(والنَّجْشُ والتَّناجُشُ: الزيادةُ فِي السِّلْعة أَو المَهْرِ لِيُسْمَع بِذَلِكَ فيُزاد فِيهِ، وَقَدْ كُرِه، نَجَشَ يَنْجُشُ نَجْشاً. وَفِي الْحَدِيثِ: نَهى رسولُ اللَّه، ( صلى الله عليه وآله )، عَنِ النَّجْش فِي الْبَيْعِ وَقَالَ: لَا تَناجَشُوا، هُوَ تَفاعُل مِنَ النَّجْش؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: هُوَ أَن يَزيدَ الرجلُ ثمنَ السِّلعة وَهُوَ لَا يُرِيدُ شَرَاءَهَا، وَلَكِنْ لِيَسْمَعَهُ غيرُه فيَزيد بِزِيَادَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُرْوَى فِيهِ عَنْ أَبي الأَوفى: الناجِشُ آكلُ رِباً خائنٌ...)
(ابْنُ شُمَيْلٍ: النَجْشُ أَن تَمْدَحَ سِلعةَ غيرِك لِيَبِيعَهَا أَو تَذُمَّها لِئَلَّا تَنْفُق عَنْهُ؛ رَوَاهُ ابْنُ أَبي الْخَطَّابِ. الْجَوْهَرِيُّ: النَّجْشُ أَن تُزايدَ فِي الْبَيْعِ لِيَقَعَ غيرُك وَلَيْسَ مِنْ حَاجَتِكِ، والأَصل فِيهِ تَنْفيرُ الْوَحْشِ مِنْ مَكَانٍ إِلى مَكَانٍ. والنَّجْشُ: السَّوق الشَّدِيدُ. وَرَجُلٌ نَجَّاشٌ: سَوَّاقٌ)
لكن الظاهر ان الجذر اللغوي لا يصلح دليلاً، وإن أمكن عدّه مؤيداً، فان النجش وإن كان موضوعاً لغةً لمطلق الإثارة والاستثارة إلا انه لا يدل على ان واضع([5]) مصطلح النجش في المعاملات بالمعنى الأعم وضعه لمطلق الزيادة في أية معاملة بدون أي قيد إذ كما يمكن ان يكون الجذر الغوي داعياً لوضعه لمطلق الزيادة يمكن كونه داعياً لوضعه لبعض أنواعها، والحاصل: ان دواعي الوضع الثانوي مختلفة، نعم قد يقال انه (يحسن) وضع النجش للأعم مادام في اللغة موضوعاً للأعم، لكنه أعم من وقوعه أو وقوع قسيمه. فتأمل([6])
ب – عمومية ملاك النجش
اما الملاك فقد سبق مراراً اننا لا نحيط بملاكات أحكام الشارع ولعلها حكمة ولعل مزاحماً أو مانعاً هنالك، واما استظهار عرفية الملاك فمنوط أمره إلى ظهور ذلك لدى الفقيه لكن الظاهر صعوبة هذا الاستظهار بعد ملاحظة جهلنا بما هو العلة من ملاكات أحكام الشارع وانها غالباً حِكم بل ان المبرَز بشكل علة هو حكمة عادة لا يدور الحكم مداره وقد حققنا هذه المسألة سابقاً فراجع.
ج - الاطلاقات
واما الاطلاقات فهي العمدة لو ثبتت فلا بد من التحقيق في الموضوع له لفظ النجش لتتضح لنا حدوده وليصح التمسك بإطلاقه أو ليظهر عدمه كلما شككنا في قيد من القيود السابقة، وسيأتي بحث ذلك بإذن الله تعالى، كما سيأتي حكم صورة الشك وأنه لو لم يتضح لنا الموضوع له نظراً لاختلاف اللغويين في تفسير النجش فما هو المرجع وسيأتي نقل كلام المحقق الايرواني والمناقشة فيه بإذن الله تعالى.
تنبيه: لو تعارض قول الصرفيين مع العرف
سبق ان المرجع في تحقيق معنى باب التفاعل والتفعل وسائر الأبواب وانه ما هو الموضوع له الحقيقي لكل واحد من هذه التصريفات، هو العرف دون الصرفيين، والوجه في ذلك ان الصرفي على فرض كونه أهل خبرة في وضع الهيئات كما ان اللغوي أهل خبرة في وضع المواد – وهو المنصور – لم يسمع من الواضع – وهو الله تعالى أو يعرب بن قحطان أو مجموعة من الحكماء، على الأقوال – وَضْعَ هيئةِ كذا لمعنى كذا، بل اعتمد على تتبع موارد الاستعمال والحدس منها بالموضوع له فهو أهل خبرة ورأيه حجة كما نرى، لكنه لو تعارض مع العرف لما كان حجة إذ غاية ما فيه انه رجع إلى مرتكَزِه كمرآة لما يفهمه العرف فلو تعارضا تبين خطؤُه.
والسر: ان العرف هو المتلقي يداً بيد عن الواضعين المعاني الموضوع لها (مواداً وهيئات) والمستعمل فيها دون عنايةِ مصحّحٍ، فهم المرجع والصرفي واللغوي كواشف عن الكاشف لا أكثر، فتدبر، وللحديث صلة.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ((لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَراً لِمَا بِهِ الْبَأْس)) (تحف العقول ص60)
([1]) فقه الصادق ج14 ص466.
([2]) لو لم يعارضه معارض وهو شرط في المسند أيضاً.
([3]) الكافي (ط – الإسلامية) ج5 ص559.
([4]) لسان العرب ج6 ص251.
([5]) بوضع تعييني أو تعيني والثاني هو الظاهر ككل لفظ عام استخدم استخداماً خاصاً اقتصادياً أو غيره في غير هذا الزمن الذي اعتادت المجاميع اللغوية وضع المصطلحات فيه.
([6]) إذ لا دليل على الوضع الثانوي للنجش فلعله استعمل في المعاملات باعتباره مصداقاً من مصاديق النجش اللغوي
وفيه: أولاً بُعد ذلك عن المرتكز الذهني وثانياً: انه لا ريب في ان المعنى اللغوي ليس هو موضوع الحرمة في الروايات إذ ليست أية إثارة للشيء محرمة بل أنواع منها فلا بد من الرجوع في تحديد المراد بالنجش بما انه أخذ موضوعاً في الروايات إلى العرف الخاص أي عرف أهل السوق والمعاملات أو إلى مناسبات الحكم والموضوع. فتأمل وهذا ما سيأتي بإذن الله تعالى. |