بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تقليد الأعلم
(16)
الاقربية الاجمالية القطعية لا تنتج المطابقة التفصيلية ولا ترتيب الآثار
وصفوة القول في الطرق التكوينية هو: ان الاقربية الاجمالية القطعية وغالبية المطابقة لا تستلزم الاقربية التفصيلية([1]) ولا المطابقة والإصابة في المصداق ثبوتاً، كما لا تنتج لدى العقلاء والمتشرعة صحة ترتيب الآثار على الآحاد والمصاديق إثباتاً.
أمثلة وشواهد وجدانية
ويشهد لذلك تصفح أحوال الطرق التكوينية المختلفة: كشباك الصيد والتي هي الطريق لصيد الفريسة، والهداة إلى الحق في مقابل الضُّلاّل عن الدرب، والتلقين والإيحاء النفسي، وحتى الفريقان المتخالفان في أية مسابقة أو لعبة أو مباراة([2]) وغير ذلك.
ولنقتصر في التوضيح على حال فريقي دعاة الهدى وهواة الضلال؛ فان به يتضح حال سائر النظائر التكوينية: فلو فرض وجود فريق مبلغين يدعون إلى الحق وبه يعدلون وفريق آخر من المبشرين يدعون إلى الباطل والضلال كالمسيحية أو اليهودية مثلاً وكان هناك مائة شخص من الناس الذين تنازع على هدايتهم أو إضلالهم الفريقان، وفرض ان الدعاة الهداة كانوا أقوى بياناً وإعلاماً واستعداداً وكان المبشرون أضعف([3])، وفرض ان محصّلة ذلك كله ثبوتاً كان اهتداء ستين شخصاً من المائة وتهوّد أو تنصّر ثلاثين وتحيّر عشرة أشخاص، فان المصاديق ثبوتا عندئذٍ تكون مختلفة بالبداهة وإلا للزم الخلف فلم تستلزم الاقوائية والاعلمية والاكفأية ثبوتا كون أي مصداق زائداً فوق الستين مهتديا راشداً واما إثباتاً فان العقلاء لا يرتّبون الآثار ولا يبنون على الإصابة في أي مصداق شكّوا فيه؛ ألا ترى انهم لو جهلوا من اهتدى من المائة ومن ضلّ ومن تحير، فانه لو عرض عليهم أحد المائة – وهم لا يعلمون انه من أي من الطوائف الثلاث – فانهم لا يبنون على انه مهتدٍ مسلم شيعي استناداً إلى الاقربية والاكثرية الإجمالية القطعية للمهتدين، فلو كان قد عزم احدهم([4]) على ان يدعو زيداً إلى داره أو يزوجه ابنته أو نذر فعل كذا عند اهتدائه فانه لا يوجد عاقل يرتِّب هذا الآثار أو غيرها لصِرف اقوائية احتمال كونه من المهتدين لان نسبتهم 60% ولصِرف اقوائية الطريقية التكوينية لفريق الهداة والمبلغين.
وكذلك الحال في الفرق المتنافسة أو المتبارية في شتى الفنون وأنواع اللعب والمسابقة([5]).
نعم يستثنى ما لو كان البون شاسعاً وكانت الاقربية الاجمالية القطعية كبيرة جداً بحيث أورثت الاطمئنان أو الظن النوعي([6]) لكن هذا خروج عن مفروض الكلام إذ الكلام في الدوران بين الأعلم وغيره المتعارف لا ما إذا كان الفاصل كبيراً جداً بحيث كان احتمال إصابة هذا 99% واحتمالة إصابة ذاك 52% مثلاً([7]).
وهذا قصارى ما يمكن إيصال ما ذكره في بيان الفقه بقوله (ان ذاك في الطريقية التكوينية وهي لا تعيّن الأعلم، فلعل الطريقية لغير الأعلم).
إذ بما ذكرنا ظهر ان الاحتمال – الذي عبر دام ظله عنه بلعلّ – في الأعلم وان كان أقوى إلا ان العقلاء لا يرتبون عليه الأثر أصلاً إثباتاً ولا يستلزم كون خصوص هذا المصداق هو المطابق للواقع ثبوتاً فلعله قسيم. فتدبر جيداً.
لا منافاة على الطريقية الاعتبارية بين حجية كلا الرأيين
ثم قال السيد العم: (واما الطريقية الاعتبارية فلا منافاة فيها بين حجية فتوى الأعلم وبين حجية فتوى غير الأعلم أيضاً، إذ ملاك الاعتبارية ليس مجرد الواقع بل مجموعة مصالح في طليعتها وصول الواقع نظير تعارض البيّنتين فإنّ أقربية إحداهما إلى الواقع – كما إذا كانت أعرف بالحال من الأخرى – لا توجب تعيّنها وسقوط البيّنة الأخرى عن الحجية مع انهما طريقان.
ولذا ذهب المشهور إلى التساقط فيهما، وليس ذلك إلا لوجود ملاك الحجية في كليهما، وإلا لما أوجبت الأمارة غير الأقرب سقوط الأقرب أيضاً كما لا يخفى)([8]).
معاني ومحتملات الطريقية الاعتبارية
أقول: هنا أمور بعضها توضيح وبعضها إضافة وتعقيب على ما ذكره:
الأول: ان الطريقية الاعتبارية قد يراد بها:
أ- تتميم الكاشفية. ب- المنجزية والمعذرية. ج- لزوم الإتباع.
وهذه الثلاثة اعتبارية إذ أمرها بيد المعتبر عكس الطريقية التكوينية([9]) فأمرها أسهل جداً فان بيد المعتبر حينئذٍ ان يتمم كاشفية الطريق الأضعف دون الأقوى فيكون هو الحجة لا غير (هذا من حيث الامكان واما الوقوع ووجه الحكمة فسيأتي) أو يتمم كاشفيتهما فتكون النتيجة التخيير أو لا يتمم كاشفية أي منهما فالتساقط.
وقس على هذا حال المعنيين الآخرين للطريقية والحجية على تفصيل وكلام في إمكان جعل التنجيز والاعذار مستقلاً أو استحالة ذلك من دون جعل منشأ انتزاعهما.
هذا. وقد سبق من السيد دام ظله المستند في نسبته القول بالتساقط إلى المشهور إذ قال (قال في العروة: Sإذا تعارضت البيّنتان أو إخبار صاحبي اليد في التطهير وعدمه تساقطاR.
ولم يعلّق أحد ـ فيما رأيت من عشرات التعليقات ـ بتقديم الاقرب إلى الواقع، أو الاقوى، ونحوهما.
حتّى أنّ البعض صرّح بتساقط قولي صاحبي اليد، وإن كان أحدهما عدلاً ثقة، والاخر فاسقاً، مع أنّ قول ذي اليد طريقي، وطريقية العادل ـ بلا شكّ ـ أقرب من طريقية الفاسق)([10]).
وقد أضاف دام ظله قبله وبعده شواهد عديدة فراجع، وسيأتي بحثها في ضمن الدليل الثاني وهو الاقربية للإصابة، بإذن الله تعالى
وجهان لجعل الحجية لنظر المفضول
الثاني: ان وجه الحكمة في قيام المولى الحكيم بذلك (أي بتتميم كاشفية الأضعف دون الأقوى أو مع الأقوى) هو أحد أمرين:
1- التزاحم
1- ما ذكره السيد العم من التزاحم وقد أوضحناه سابقاً مفصلاً، وإجماله ان مصلحة الاقربية للواقع تزاحمها المصالح السلوكية والجهات الموضوعية الأخرى كمصلحة التسهيل وغيرها، وقد فعل الشارع ذلك إذ حكم بتعيّن تقليد المجتهد العالم العادل دون المجتهد الأعلم الفاسق مع ان نظر الأعلم أقرب للاصابة دون شك لكنه لا يجوز تقليده ويتعين تقليد المفضول العادل لضميمة الجهة الموضوعية إلى الطريقية عند اعتبار الشارع الحجية له – بأية معنى من المعاني الثلاثة الآنفة – وقد سبق منا إيضاح الجهات الموضوعية المتصورة وأدلة تحققها ووقوعها فراجع.
2- الملاك بعرضه العريض
ما ذكره الشيخ كاشف الغطاء قال: (إن قلت: إنه لا إشكال على الطريقية يكون القرب للواقع له دخل في الطريقية فهو له دخل في ملاك الحجية إما وحده أو بضميمة شيء آخر إليه. ولا إشكال أن فتوى الأفضل أقرب للواقع فيكون الملاك فيها أقوى فتترجح على غيرها.
قلنا: الأقربية المذكورة لـمّا كانت زائدة على ما هو ملاك الحجية فهي لا توجب الترجيح بعد وجود الملاك في كل منهما، بل إنما يستحسن معها الترجيح)([11]).
وقد أوضحنا ذلك بالتفصيل في الدرس قبل السابق وما سبقه وأشرنا له في الدرس السابق بعنوان ان للحجج عرضاً عريضاً فراجع.
ملاك الموضوعات كملاك الحجج في عرضها العريض
ونضيف هنا: ان لذلك نظائر وأشباه كثيرة في دائرة الموضوعات كالحجج، ومنها: ما لو قال صل خلف العادل فان الملاك حينئذٍ هو العدالة بعرضها العريض فتجوز الصلاة خلف أي عادل ولو تزاحم عادلان وكان احدهما أقوى ملكة، حتى بما لا قياس، فانه لا تتعين الصلاة خلفه، بل ترجح لا غير.
وكذلك ما لو قال المولى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...) فان الملاك هو كونه فقيراً في استحقاقه الزكاة فلو دار الأمر بين ان يعطي الأشد فقراً أو الفقير، تخيّر غاية الأمر رجحان الاعطاء للأشد فقراً لا تعينه.
تنبيه: لا يخفى ان المثالين من باب التزاحم والعرض العريض هو للموضوع، ومحل الكلام هو التعارض والعرض العريض هو للحجة، وقد ذكرنا أمثلة التعارض والعرض العريض للحجة سابقاً وأضفنا التزاحم والعرض العريض للموضوع لاثبات ان بناء العقلاء عموماً في كل الأبواب على العرض العريض سواء للملاكات أم للطرق أي سواء لملاكات الأحكام أم لملاكات الحجية، إلا ما خرج. فتدبر جيداً.
والحاصل: اننا على هذا الوجه لا نحتاج إلى شفع الجهة الطريقية بالجهات الموضوعية والمصلحة السلوكية بل يكفينا صِرف لحاظ ملاك الإيصال للواقع بما هو هو وان قوام الحجية بغالبية الإيصال واما الاغلبية فهي مزية لا توجب التعين والإلزام بل مجرد الرجحان فراجع الدروس السابقة ففيها على ذلك البرهان.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) أي اقربية كل فرد فرد.
([2]) ككرة القدم مثلاً.
([3]) أو العكس، لا فرق.
([4]) أي أحد العقلاء.
([5]) ومن أوضح الأمثلة الوجدانية الكثيرة الابتلاء: ما لو وجد فريقا كرة قدم، احدهما أقوى بحيث كانوا عادة يصيبون خمسة أهداف وكان الفريق المنافس يصيب ثلاثة أهداف عادة مثلاً، بل لو فرض انه لو علم انهم في هذه المباراة كذلك، فان ذلك لا يستلزم في عالم الإثبات بالحكم على الهدف المجهول – أي الذي دخل في شبكه أحد الفريقين من غير ان نعلم ممن هو ومن هو الفريق الرابح لهذا الهدف – فانه لا يبني عاقل في العالم كله على ان الهدف المجهول هو لصالح الفريق الأقوى استناداً إلى ان احتمال إصابتهم أكبر – فيرتب الآثار ومنها مثلاً الوفاء بوعده لو وعد على ترتيب أثر ما على ربح هذا الهدف أو إلزامه بدفع ما راهن عليه عندئذٍ (والرهن باطل شرعاً كما لا يخفى) إنما الكلام في ان العقلاء متدينين وغيرهم لا يرتبون الآثار على المصداق المجهول وان علموا اكثرية الإصابة قطعاً إجمالاً.
([6]) كما لو كان من هداه فريق الدعاة 98 شخصاً ومن ضلّ شخص واحد ومن تحير واحد، مثلاً.
([7]) وليعُدّ هذا تفصيلاً فانه لا بأس به بل قد يقال انه لا حجية للمفضول عندئذٍ ولو دون وجود معارض. فتدبر
([8]) بيان الفقه ج2 ص23-24.
([9]) كالمحركية التكوينية الذاتية، والكاشفية التامة... الخ
([10]) بيان الفقه ج2 ص21.
([11]) النور الساطع في الفقه النافع ج2 ص504.
|