بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
النَجش
(مدح السلعة أو الزيادة في ثمنها ليزيد غيره)
(9)
الدليل الرابع: أدلة حرمة الكذب
وقد استدل الايرواني على حرمة النجش بكونه كذبا بقوله: (فالتمسك بأدلة حرمة الكذب حيث ان الزيادة متضمن للاخبار بانه مقدم على الشراء بهذا الثمن أولى)([1]).
أقول: من الواضح ان النسبة بين النجش والكذب هي العموم من وجه، ولا يصح الاستدلال على حرمة احدهما أو على وجوبه بالآخر.
بعبارة أخرى: النجش أعم من الكذب – كعكسه – إذ قد يكون النجش بالصدق كما لو عرض بضاعته للبيع بالأقل من سعرها فأقدم المشتري على الشراء فتدخل الناجش وقال: لم تبيعها بمائة مع انها تسوى بمائة وخمسين – وكانت كذلك – فبعني إياها بـ150 (أو بدون طلب شراءها بناءً على تعميم النجش لمدح السلعة([2]) ليزيد الآخر بزيادته وان لم يرد هو شراءها). هذا كله من حيث دعوى ان وجه كونه كذبا هو كون اخباره عن القيمة غير مطابق للواقع، واما من الجهة التي ذكرها الايرواني فسيظهر ما فيها عند بيان حقيقة الكذب في الانشائيات في ضمن مناقشة كلام فقه الصادق.
وقال في فقه الصادق (الخامس: ادلة حرمة الكذب، فان النجش تارة يكون بالكذب الصريح، واخرى يتضمن ذلك لتضمنه الاخبار بانه مقدم على الشراء بهذا الثمن، أو انه يسوي بهذه القيمة، مضافا الى وجود مناط حرمة الكذب وهو الاغراء فيه، استدل بهذا الوجه جمع من الاساطين)([3])
ثم أشكل على الشطر الأول بقوله (الظاهر ان النجش ان كان بمدح السلعة بما ليس فيها، أو كان بزيادة الثمن بان يقول: ان هذه السلعة تسوى بهذه القيمة، أو اني اشتريه بها([4]) وهو لا يريد شرائها، فهو كذب صريح ويكون حراما لذلك، والا كما لو مدحها بما فيها ولكن بالغ في مدحها أو زاد الثمن لا بالاخبار كما لو قال: بعني بهذا الثمن مثلا فلا وجه لحرمته، إذ مجرد تخيل المشتري انه بنظر الناجش السلعة تسوى بهذه القيمة لا يوجب اتصاف كلامه بالكذب لما عرفت من ان الكذب هو عدم مطابقة مراد المتكلم للواقع. فراجع)([5]).
أقول: المعروف ان الإخبار حكاية وان الإنشاء إيجاد([6]) وان الايجاد لا يعقل فيه الصدق والكذب فان الصدق والكذب بلحاظ مطابقة الخبر (أو المراد) للواقع أو للاعتقاد أولهما (على الأقوال) والإنشاء إيجاد وليس اخباراً ولا حكاية، وعليه فوجه عدم كون النجش بصيغة (بعني) كذبا هو كونه انشاءاً فكان الأولى ان يعلله بذلك، وامّا تعليله بـ(لما عرفت...) فيرد عليه مبنىً ان الكذب هو عدم مطابقة ظاهر القول للمحكي عنه أو المخبر عنه أو الواقع الأعم من الوجودات الأربعة لو كان الاخبار عن احدها، وليس الملاك عدم مطابقة مراده للواقع ولا عدم مطابقة اعتقاده للواقع إلا في كذب الحاكي لا كذب الحكاية، وقد فصلنا الكلام عن ذلك في بحث التورية فراجع.
وجوه اتصاف الانشاء بالصدق والكذب
وعلى أي فانه قد يناقش المشهور ويقال بان الانشاء مما يتصف بالصدق والكذب وذلك باحد وجوه خمسة:
1- الصدق والكذب بلحاظ الإرادة الجدية
الوجه الأول: الالتزام بان الكذب أعم من الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية أو هو خاص بالثانية فحسب واما عدم مطابقة الأولى فخطأ فقط، ألا ترى انه لو قال (زيد كثير الرماد) قاصداً أنه كريم إذ سئل هل زيد كريم؟ وكان كثير الرماد بمعناه الحقيقي([7]) لكنه لم يكن كريماً، فانه يقال له انك كاذب، مع ان الإرادة الاستعمالية كانت مطابقة للواقع وعدم المطابقة إنما كانت في الإرادة الجدية.
كما انه عكسه على عكسه فلو لم يكن له رماد وكان جواداً صدق قوله كثير الرماد لمطابقة الإرادة الجدية للواقع وإن لم تطابقه الاستعمالية. ومآل هذا ان تمّ على كون المدار في الصدق والكذب هو الإرادة الجدية وهو الذي التزم به الشيخ وأشار إليه فقه الصادق في كلامه الآنف، وفيه ما لا يخفى([8]):
وعلى أي فانه على هذا يقال ان الإنشاء كقوله بعنيه بكذا بدلالته الاستعمالية إنشاءٌ غير قابل للاتصاف بالصدق والكذب، لكنه بدلالته الجدية اخبار يتصف بهما إذ كان مراده الجدي من الانشاء هو الاخبار عن ان البضاعة تسوى كذا ليغترّ به المشتري فيزيد في الثمن.
2- هما أعم من المصدري والاسم مصدري
الوجه الثاني: ان يقال ان الكذب أعم من الكذب المصدري والاسم المصدري، والمراد بالاسم مصدري ان نتيجة القول غير مطابقة للواقع وان كان القول بنفسه مطابقاً والمراد بالمصدري عدم مطابقة القول بنفسه للواقع.
والانشاء لا يتصف بالكذب المصدري إذ ليس بحكاية كي يقال انها مطابقة أو غير مطابقة، إلا ان نتيجته ولازمه المفهوم منه يتصف فان قوله مثلاً (ألا ليت الشباب يعود يوما...) بمعناه المصدري إنشاء الترجي وإيجاده لكنه بمعناه الاسم المصدري أي ناتج هذا القول والمفهوم منه بالمآل هو دعواه انه ليس بشاب فلو كان شابا لكان كاذبا في قوله هذا بلحاظ معناه الاسم مصدري، وكذا قول المستعطي اعطني فان معناه الاسم مصدري أي الناتج من هذا والمفهوم منه مآلا هو الاخبار عن انه محتاج فقير فهو كاذب في ذلك، وكذلك الناجش المنشِئ بقوله (بعنيه بـ150) مع انه يسوى 100 فان معناه الاسم المصدري انه يسوى 150.
وقد أشرنا سابقاً للتأمل في هذا الوجه وان ظواهر الأدلة بل وظاهر مطلق العناوين عندما تلقى إلى العرف ومنه مطلقاً هو المعنى المصدري واما الاسم المصدري فبحاجة إلى عناية زائدة.
3- هما أعم من الحكاية والحاكي
الوجه الثالث: ان يقال ان الكذب أعم من كذب الحكاية وكذب الحاكي – كما فصلناه في مبحث التورية – أو فقل كذب الكلام وكذب المتكلم([9]) ولا شك ان القائل (بِعني) لا يتصف كلامه بالكذب لكونه انشاء إلا ان المتكلم قد يتصف بكونه كاذباً إذ انه بقوله هذا يخبر عن انه جاد في الشراء أو ان البضاعة تسوى كذا.
لكن الظاهر ان إطلاق الكذب على كذب الحاكي أو المتكلم إنما هو على نحو التوسع كسوابقه (أي إطلاقه على الكذب الاسم المصدري أو على كذب الإرادة الجدية).
4- هما أعم من الدلالة المطابقية والالتزامية
الوجه الرابع: ان يقال: ان الكذب وإن كان عدم مطابقة ظاهر القول للواقع إلا انه أعم من عدم مطابقة دلالته المطابقية أو التضمنية أو الالتزامية للواقع، والمستعطي القائل اعطني مع انه فقير، في دلالته المطابقية منشِئ وليس بمخبر فليس قوله كذبا من حيث الدلالة المطابقية لكنه حيث دل بالدلالة الالتزامية على انه فقير أي أخبر بدلالته الالتزامية عن فقره صحّ وصفُ كلامِه بالكذب بهذا اللحاظ، وكذلك الحال في كافة أقسام الانشاء من تمنِّ وترجِّ وحثِّ وأمرٍ ونهيٍ... الخ فلو قال الا تنزل بنا فانه حض وحث لكن دلالته الالتزامية انني احب وأرغب في نزولك وهو خبر وهكذا...
وعليه: فقول الناجش بِعني بكذا وإن لم يكن كذبا بدلالته المطابقية لكنه كذب بالدلالة الالتزامية فيحرم من هذه الجهة.
ولكن الحق: ان الكذب موضوع عرفي، وما سبق بأوجهه المختلفة ما هو إلا تنقيح لتحديده فيجب ان يعرض عليه([10]) فان صدق عرفاً على قولٍ انه كذب بلا عناية شملته أدلة حرمة الكذب وإلا فلا، ولعل العرف يختلف بلحاظ ظهور وخفاء الكلام في دلالته الالتزامية بذاته أو بلحاظ القرائن الحالية العامة أو الخاصة وكذلك في ظهور وخفاء المعنى الاسم المصدري أو كونه حكاية عن حاله (أي الحاكي) أو عن إرادته الجدية وللحديث صلة. فتأمل وتدبر والله العالم.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) حاشية المكاسب للايرواني ص247.
([2]) وقولُه بانها تسوى أكثر من المعروض مدحٌ لها.
([3]) فقه الصادق ج14ص646.
([4]) مخبراً بذلك، واما الوعد فخلفه غير محرم نعم من جهة كذبه في اخباره – ان كان قاصداً الخلاف – محرم.
([5]) نفس المصدر.
([6]) أي إيجادُ اعتبارٍ في عالمه، حسب المنصور، أو إبراز الاعتبار أو الاعتبار المبرز حسب أقوال أخرى.
([7]) لكون احدى غرف بيته مثلاً مخزنا للرماد.
([8]) فان ذلك بالقرينة الحالية العامة أو المقالية فقد انعقد ظهور ثانوي فهو كأي مجاز آخر، بل انه من الكناية وهي ليست من المجاز بل من أقسام الحقيقة والتحقيق ان افادتها المقصود بالانتقال لا بالاستعمال لذا لم يكن مجازاً ولا كان كذباً بل ولا حقيقة. وقد فصلنا ذلك في بحث التورية والمعاريض. فتأمل إضافة إلى ان الاسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية فهي غير مرتهنة بالإرادة ولظهور ان الكذب صفة لظاهر القول غير المطابق للواقع لا للمراد غير المطابق للواقع نعم قد يتوسع فيطلق عليه، لكنه بالعناية. فتأمل جيداً
([9]) كي لا يعترض بانه لا حكاية في الانشاء فكيف يقال كذب الحكاية وكذب الحاكي.
([10]) أي على الافهام العرفية.
|