بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث في التفصيل الذي ذهب إليه السيد الوالد حول الرشوة القولية والفعلية وانه يعتبرها رشوة موضوعا ولكنها ليست بمحرمة حكما، وذكرنا انه يمكن أن يستدل له على ذلك بالانصراف الناشئ من كثرة الاستعمال، وقد مضى بيانه، وذكرنا انه يمكن أن يستدل كذلك بالسيرة على رأيه بشقيها وذلك بالسيرة على الإنكار، وكذلك السيرة على الإقرار، وقد أوضحنا ذلك أيضا،
ولكن أشكلنا بان السيرة اخص مطلقا من الأدلة، والقاعدة العامة هي أن العام والخاص وكذلك المطلق والمقيد المثبتين لا يقيد احدهما الآخر على المشهور، وذكرنا انه ههنا تأملاً على الإشكال يظهر بالتدبر.. هذا ما مضى.
تأمل في الإشكال السابق:
ولكن الإشكال التي ذكرناه من أن السيرة لا تقيد الأدلة العامة، يمكن أن يورد عليه :
أولا: الجهة الثانية من السيرة نافية فهي مخصصة للأدلة العامة:
إن السيرة التي نقلناها كانت ذات شقين وهي بأحد الشقين مثبتة فيأتي إشكال (المثبتين)، ولكنها بالشق الثاني، أي السيرة التي كانت نافية تكون مخصّصة فلا يرد ما ذكر،
وبتعبير آخر: إن السيرة المثبتة هي بنحو (لا بشرط) فتكون موافقة للعمومات في الجهة، ولكن السيرة من الجهة الأخرى هي بنحو (بشرط لا) وهي نافية، فيتحقق التخالف مع الأدلة العامة فتكون مخصصة لها فيندفع الإشكال.
توضيح ذلك:
انه سبق إن سيرة المتشرعة هي على الإقرار بما أريد به إقرار الحق، من قول او فعل هذا أولا, وثانيا إن سيرتهم هي أيضا على الإنكار على ما أريد به إبطال الحق، من قول او فعل، وذكرنا أن السيرة على الإنكار انما هي لما تؤدي إليه الرشوة (أي الإنكار هو لذي المقدمة لا لها) كما ان الإنكار هو على ما تكشفه الأقوال والأفعال من خبث الباطن، ولكن هذا الإنكار ليس على الفعل بما هو هو؛ لوضوح ان الفعل المقدمي بما هو هو لا يتلون إلا بلون ذي المقدمة، ولذا فهو في حد ذاته ليس بمحرم؛ إذ لا لون له، والحاصل: ان السيرة كاشفة عن ارتكاز المتدينين على نفي الموضوعية للقول (أي عدم كونه بما هو هو موضوعا للحرمة) وهذا الجواب هو تحقيق صغروي لحال السيرة ودلالتها.
ثانيا :السيرة شارحة ومفسرة للدليل الاعم فتخصصه
ويرد على الإشكال السابق كذلك:
سلمنا ان السيرة غير نافية وان السيرة إنما تكشف عن الإنكار على خبث الذات والإنكار على ما توصل بالأقوال والأعمال إليه، لا عليها، وانها من جهة الموضوعية ساكتة، ولكن نقول:
إننا لا ندعي إن السيرة المثبتة لبعض الحصص الأخص مقيدة للدليل الأعم؛ كي يجاب بان المثبتين لا يقيد احدهما الآخر، بل ندعي ان السيرة مفسرة وشارحة للدليل العام، وعليه فلا تلاحظ معادلة (ان الدليل العام والخاص لو كانا مثبتين فلا يقيد احدهما الآخر)، وإنما الحكومة ثابتة في المقام فيقدم الدليل الناظر والشارح، - أي السيرة - على الدليل الآخر المحكوم - أي الأدلة العامة - كما هو الحال في تقدم دليل قاعدة (لا ضرر) على سائر أدلة العناوين الأولية من غير ملاحظة قاعدة (النسبة لو كانت من وجه فيحصل التعارض في مادة الاجتماع فيتساقطان أو يتخير)، بل نظراً للناظرية فانه يقدم الدليل الحاكم لمفسريته وشارحيته.
وفي مقامنا فان السيرة على الأخص وإن كانت مثبتة وكانت ساكتة عن نفي الأعم فلم تكن مخالفة له لتخصصه، لكنها حيث كانت محتفة بالنص الوارد، قد يستظهر انها مفسرة له: بان المراد من النص المحرِّم هو حرمة بذل الأموال وشبهها لا الأقوال والأفعال، وحيث فسرت خصصت، لا إنها تخصص ابتداء، هذا هو المدعى في المقام وله وجه. فتأمل
ونمثل لتقريب الفكرة بمثال فنقول: في أدلة حرمة الكذب عندما نلاحظ السيرة العامة للمتدينين وللعقلاء بما هم كذلك سنجد انهم يرون قبح الكذب بما هو هو[1]، ولكنهم في المقابل يرون حسن بعض حصص الكذب كالكذب للإصلاح أو إنقاذ النفس المحترمة بل يرونه لازما وواجبا،
وعليه: فان لدينا هنا سيرتين تكشفان عن ارتكازين: الأولى إن الكذب في غير إصلاح ذات البين أو إنقاذ النفس أو نظائرهما، قبيح ومردوع عنه عقلا، وأما الأخرى فان الكذب في الإصلاح وما شابهه حسن ولازم، ومن هنا فإننا لو لاحظنا هاتين السيرتين وورد دليل يدل على قبح الكذب وحرمته فقد يقال انه و بمعونة السيرتين فان هذا النص ناظر إلى الحصة القبيحة من الكذب لا الحسنة،
وبتعبير آخر: إن هذا الدليل منصرف عن حصة من الكذب وهي الكذب الحسن، إلى حصة أخرى وهي الكذب القبيح فتنحصر دلالته على حرمة الأخيرة دون الأولى[2].
والمتحصل: إن الأدلة ناظرة إلى الرشوة المالية فتكون هي المحرمة لا إلى الرشوة القولية او الفعلية[3]
ولو تم هذا الوجه فان تفصيل السيد الوالد سيكون تاماً, وإلا فلا مناص من اللجوء إلى رأي السيد الخوئي حيث نفى صدق الرشوة والحرمة معا,
تتمة وتفصيل:
استحبابية الأفعال والأقوال هل هي مخرجة لها من دائرة أدلة حرمة الرشوة؟
تتمة وتفصيل: قد يقال: إن الأقوال كمدح القاضي والأفعال كتكثير السواد في مجلسه كي يحكم له بحكم في قضية بحق او باطل، قد يفصل فيها بين المستحبات وغيرها، ووجهه:
إن المستحبات من الأفعال والأقوال غير مشمولة بأدلة الرشوة فان اندراجها تحت العنوان المحبب شرعا يقتضي استثناءها من أدلة حرمة الرشوة.
وأما لو لم تكن مندرجة تحت عنوان مستحب، فإنها ستكون مصداقا لتلك الكليات، أي: كليات تحريم الرشوة.
ردّ هذا التفصيل: اللااقتضائي لا يزاحم الاقتضائي
لكن يرد على هذا التفصيل القاعدة المسلم بها: وهي إن الدليل اللا اقتضائي لا يزاحم الدليل ألاقتضائي، والمستحبات هي لا اقتضائية فلا تزاحم المحرمات الاقتضائية، و الرشوة محرمة والحرمة دليل اقتضائي فلو انطبق هذا العنوان المحرم على مستحب فلا شك في تقديم الحرمة على الاستحباب، لتقدم الاقتضائي على اللااقتضائي، كما في مسألة الكذب حرام وكذا الغيبة، ومن جهة أخرى فان قضاء حاجة المؤمن حسن وإدخال السرور عليه مستحب، فلو طلب مؤمن من الآخر ان يكذب أو يغتاب فانه لا يخرجه عن حرمته انطباقُ عنوانٍ مستحبٍ كإدخال السرور عليه او قضاء حاجته غير الاضطرارية والمنحصرة.
ردّ الردّ: الدليل ألاستحبابي شارح مفسر لدليل الحرمة
ويمكن أن يرد ما ذكرناه من رد على الإشكال على التفصيل بان يقال :
إننا لا ندعي بان أدلة المستحبات كقضاء حاجة القاضي او المشي في جنازة قريب له، تزاحم أدلة الحرمة فتقدم الأخيرة عليها، بل نقول انه قد يقال: حيث أنها كانت من المستحبات فان كونها كذلك يصلح شارحا ومفسرا لأدلة حرمة الرشوة فتكون هذه الأدلة منصرفة عرفاً إلى غير المستحبات،
وعليه: يكون التصرف في عالم الدلالة والإثبات بالانصراف والناظرية، لا أن هناك تزاحماً وتقديماً للا اقتضائي المستحب على الاقتضائي الواجب، فتأمل وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
[1] - بنحو المقتضي.
[2] - ويوجد وجه آخر في قبال ذلك وهو ان يقال: ان النص عام غير منصرف رغم السيرة، لكن جاء دليل آخر فخصصه والمسألة تعود للاستظهار ومرجع الوجهين إلى انعقاد الإرادة الاستعمالية، وعدمه.
[3] - ويوجد ههنا نقاش وإشكال ثم إشكال على الإشكال و... ولكن لا نتوقف طويلا عند ذلك ونتركه لتأملكم، على ان المآل واحد (عدم الحرمة)، وان كان من حيث البحث العلمي مفيداً ومنمياً للملكة، وذلك ان بحث السيرة هو بحث سيال وان تحقيق نسبة السيرة مع القضية الكلية المنصوص عليها مهم، لأنها قد تكون مفسرة وقد لاتكون وقد تكون مردوعة وقد لا تكون |