بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول الرشوة موضوعا، وتطرقنا بعد الحديث عن كلام اللغويين في ذلك إلى الروايات، وقسمناها الى طوائف، منها تلك التي توجد فيها قرائن داخلية تفيد تحديد المراد كالروايتين المذكورتين عن ثواب الأعمال وعن الإمامة و التبصرة.. هذا ما مضى.
مدخل لبحث حكم الرشوة ومداه :
ومبحثنا الآن هو في تلك الروايات التي قد لا تكون فيها قرائن داخلية تفيد تحديد دائرة الرشوة سعة وضيقا، فهي – مبدئياً - مجهولة الوضع والمراد بالنسبة للفظ الرشوة، وهذه الروايات – وبحسب استقراء ناقص – هي عشر روايات، وسنتوقف عندها قليلا، كما ان هذا يعد مدخلا للبحث المحمولي والحكمي[1] لموضوع الرشوة وهو الحرمة، حيث سنبحث عن مدى وحدود هذه الحرمة بحسب دائرة الموضوع سعة وضيقا.
تحليل كلام صاحب الجواهر :
أما صاحب الجواهر فانه عندما بحث موضوع الرشوة أشار إلى إن النصوص مستفيضة او متواترة على حرمتها، وسوف نحاول أن نحلل كلامه ونبرهن عليه؛ فانه قد ذكره كدعوى وبلا برهان،
وأما نص عبارته: - مزيجة مع الشرائع – فيقول فيها: "الرشا حرام – وهذه عبارة الشرائع – وسحت إجماعا بقسميه، ونصوصا مستفيضة أو متواترة"[2] انتهى
إثبات تواتر روايات الرشوة[3]:
ولأجل إثبات تواتر روايات الرشوة لابد من ذكر التعريف أولا ثم ذكر الأدلة والشواهد التي تبين هذا التواتر.
تعريف التواتر :
ويوجد تعريف للتواتر ذكره الشيخ البهائي في الوجيزة، وقد استخدم بدل كلمة (يمتنع) كلمة (يؤمن معه) – كما سنرى – وتعبيره هو أدق من تعبير بعض المناطقة، والذين قيّدوا التواتر بـ(يمتنع) وان كان مراد الفريقين لعله واحدا،
حيث يقول الشيخ البهائي: "التواتر هو خبر جماعة يفيد بنفسه[4] القطع بصدقه) ويقول قبل ذلك: "بان تبلغ سلاسله في كل طبقة حدا يؤمن معه تواطؤهم على الكذب"[5] انتهى، حيث نجد في تعريفه كما ذكرنا (يؤمن معه التواطؤ) ولم يستعمل (يمتنع التواطؤ).
لابد من إضافة قيد آخر للتعريف :
وبعض المناطقة أشكلوا على هذا التعريف بانه غير كاف وغير طارد للأغيار، بل لا بد في التواتر من التوافر على قيدين:
الأول: هو أن يمتنع (أو ويؤمن من) التواطؤ المذكور .
وثانيا : أن يؤمن الاشتباه منهم، وإلا فان مجرد الأمن من التواطؤ على الكذب، لا يورث العلم من خبرهم؛ إذ قد يكونون مشتبهين مخطئين، ولذا فان ذكر القيد الثاني (الأمن من الاشتباه) هو في محله.
وأما العلامة الحلي في (القواعد الجلية) فقد أضاف قيدا آخر في التواتر وهو – ما ملخصه – انه قد اشترط استناد التواتر إلى الحس, ولكننا لا نرى هذا الشرط منه تاما، وتحليل ذلك يترك الى محله
إضافات مهمة :
1-الخبر المتواتر غير المتظافر وغير المتسامع
وهنا نقول: ان الخبر المتسامَع والمتظافر له معنى والخبر المتواتر له معنى آخر – حسب الاصطلاح -، فالمتظافر والمتسامع كما هو الحال في اخبار وجود البلدان وفي هذا النوع من الإخبار لا ضرورة لتحقق التواتر في كل طبقة، بل قد تكون السلسة في إحدى الطبقات متشكلة من حلقة واحدة فقط، ولكن المتظافر والمتسامع مع ذلك يفيد القطع، حاله حال الخبر المتواتر .
2- تعبير (يؤمن) أدق من (يمتنع )
وأما الإضافة الثانية فهي ما اشرنا اليه قبل قليل وهي إن تعبير (يؤمَن معه) هو أدق من (تعبير) يتمنع؛ وذلك لان الخبر المتواتر يؤمن معه عرفيا وعقلائيا من الكذب او الخطأ، ولا يشترط فيه الامتناع العقلي، والظاهر من كلمة الامتناع هو الامتناع العقلي لا العقلائي، ولذا فتعبير (يؤمن) أدق، وان كان قد يستظهر ان المنطقي عندما أطلق في التعريف (الامتناع) فانه وبقرينة المقام مراده هو الامتناع العقلائي لا العقلي[6].
صغرى المقام: دليل تواتر روايات الرشوة
وأما في صغرى مقامنا فنقول :
ان الروايات وردت في مصادر مختلفة منها ثواب الأعمال للشيخ الصدوق والإمامة والتبصرة لوالده والتهذيب للشيخ الطوسي والامالي للمفيد فان كل هؤلاء هم رواة لروايتنا المذكورة، هذا اضافة الى ان كتب اخرى عديدة قد ذكرت هذه الروايات مثل عوالي اللآلي ومجمع البحرين وجامع الأخبار وغيرها[7].
ونضيف: ان المجاميع الحديثية كجامع أحاديث الشيعة والوسائل والبحار نقلت هذه الروايات أيضاً.
ونضيف أيضا: ان فحول علمائنا في كتبهم الفقيهة كصاحب الجواهر وكذلك الشيخ الأنصاري وآخرين قد نقلوا هذه الروايات واعتمدوا عليها، كل هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فانه بعد التتبع أكثر في كتب العامة وجدنا انهم نقلوا هذه الروايات في الكثير من مصادرهم[8]، ومنها سنن ابي داوود والمستدرك للحاكم ومسند احمد وسنن البيهقي ومجمع الزوائد والمصنف لابن أبي شبه ومعرفة السنن والآثار وصحيح ابن حبان وغيرها
والذي يبدو ان صاحب الجواهر عندما تردد بين الاستفاضة والتواتر فان ذلك كان لصعوبة التتبع في زمانه، ولكنه متيسر الان بفضل التقدم العلمي والأجهزة الحديثة، كما نقلنا بعضها استناداً لها.
قرائن أخرى قد تفيد القطع بالصدور[9]:
وهنا نقول : انه عند ملاحظة هذه الروايات مع القرائن المحتفة بها فإنها ستفيد القطع والملاك هو القطع بالصدور سواء أصدق لفظ التواتر على المورد أو لا،
وبتعبير آخر اننا سواءاً قيدنا التواتر بقيد بنفسه او رفضنا ذلك القيد، فان روايتنا بملاحظة ما سنذكره من قرائن، هي قطعية
ومن هذه القرائن :
1)المطابقة للكتاب
ومن القرائن التي تورث القطع هي مطابقة هذه الروايات للكتاب الكريم حيث يقول الله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، وكذلك آيات أخرى وسيأتي بحثها.
2) مطابقتها للمجمع عليه بين الفريقين
وأما القرينة المحتفة الثانية فهي مطابقة هذه الروايات للمجمع عليه بين الفريقين فان الإجماع عند الشيعة قائم على حرمة الرشوة، وكذلك عند السنة
3) حرمة الرشوة من المرتكزات
وان حرمة الرشوة تعتبر من المرتكزات المسلّمة لكل متدين بل لكل إنسان[10]
4) كلام السيد المرتضى عن تواتر اكثر اخبارنا
والقرينة الرابعة هي ما ذكره السيد المرتضى في (التبانيات)[11] حيث ذكر "ان أخبارنا أكثرها متواترة".
التعليق على كلام السيد المرتضى:
ونذكر في المقام انه قد لا تكون الأخبار لدينا الآن متواترة، ولكن لو ثبت إنها كذلك في ذلك الزمن، كزمن الطوسي والمرتضى وغيرهم - كما لا يبعد ذلك بل لعل الدليل عليه ويكفي نقل السيد المرتضى لذلك - فانه يكفينا وجود مجموعة من هذه الأخبار عندنا بالاطمئنان بأنها كانت متواترة فلاحظ،
فتارة لدينا خبر واحد فلو ثبت وجود هذا الخبر في زمن السيد المرتضى والمفيد والصدوق فانه (يثبت تواتره) عندئذ على حسب رأي الاخباريين، و(يحتمل تواتره) على حسب نقل السيد المرتضى لأنه يحتمل كونه من (الأكثر) الذي ادعى السيد المرتضى انه متواتر فكيف لو كانت مجموعة أخبار قد ذكرت في ذلك الزمن فان النفس عندئذ تطمئن بشكل أقوى بالتواتر
(أي من تكرر هذا الخبر في مجموعة من كتب القدماء، فان احتمال كونه من (الأكثر – المتواتر) يكون أقوى جداً.
إذن: هذه مجموعة من القرائن المعضدة للروايات والظاهر أنها تورث القطع بصدورها عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
أقسام التواتر:
ونذكر إضافة مهمة جدا وهي ان التواتر على ثلاثة أقسام حسب ما ذكره الأصوليون، ولكن بحسب تقسيمنا فانه على أربعة أقسام، وسنذكرها تباعا وهي :
القسم الأول : التواتر اللفظي، وهذا القسم معروف ولا كلام فيه وهو اتفاق مجموعة من الأخبار على لفظ واحد[12]
القسم الثاني : التواتر المضموني
القسم الثالث : التواتر المعنوي
القسم الرابع : التواتر الإجمالي، وهذا قد اختلفت فيه كلمات صاحب الكفاية وقد عرفه بنحوٍ لكنه ناقضه بنحو آخر كما أشكل عليه بعض المعلقين[13]، وللكلام تتمة.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
[1] - حيث بحثنا موضوع الرشوة وتحديد الدائرة سعة وضيقا ، هذا ما مضى
[2] - الجواهر ج22 ص144 (وج23 ص241 ط أخرى).
[3] - وهذا بحث مهم فانه لو ثبت تواتر هذه الروايات لأغنانا ذلك عن البحث السندي ، هذا اولا ثم أمكننا ان نتمسك بإطلاق اللفظ لإثبات عموم التحريم ثانيا
[4] - و لنا نقاش مع قيد (بنفسه) إذ لا نرى انه معتبر في التواتر إذ تكفي إفادته العلم، بالضميمة.
[5] - نهاية الدراية في شرح وجيزة الشيخ البهائي ص97 أول بحث أقسام الخبر.
[6] - ولكن المنطقي كالفيلسوف لابد ان تكون تعبيراته دقيقة
[7] - والوالد له كلام لطيف يقول فيه: أحيانا يروي صاحب المسالك رواية مرسلة والكثير من المحققين يرفضها ويردها بمجرد انه لم يجدها في الكتب الأربعة ونظائرها من المصادر الحديثية، ولو وجدها في كتب العامة فانه يهمش المصدر من كتبهم والوالد يقول ان هذا ليس بصحيح حيث ان الروايات لا تنحصر وجوه حجيتها وصحة الاستناد اليها بوجودها مرسلة في كتاب الشيخ الطوسي بل سواء أكانت مرسلة في كتاب حديثي او فقهي فان ذلك يكفي لمن يرى حجية مراسيل الثقاة او لمن يرى أنها لو اعتضدت بالموافقة للقواعد فهي حجة، وهذا بحث يترك لمحله
[8] - فنفس لفظ الرواية (لعن رسول الله الراشي والمرتشي) موجود عندهم |